Wednesday, April 9, 2014

بلون الكريز


تستغل فرصة انشغال أمها بصلاة الظهر التي حان موعدها، وأبيها بمشاهدة موجز الأنباء، وتتسلل لغرفتها لتغلق بابها عليها بحذر.. تسحب القنينة الصغيرة من مخبئها وتبدأ ببطء محسوب في فرد لون الكريز شديد البهجة على أظافرها..
تنهي أمها الفريضة فتهرع الفتاة للتظاهر بأنها تكمل غسيل الأطباق، إلى أن يجف اللون تمامًا.. تتجنب الاحتكاك بأيهما إلى أن تتقلص كومة الأطباق عن آخرها، وهي تتطلع من حين لآخر بإعجاب إلى اللون الذي يغطي أطراف أناملها..
تخرج إذن من المطبخ، بابتسامة عريضة قدر المستطاع، وتتحين الفرصة لتُري أمها - بنفس الابتسامة - اللون الجديد، وكيف أنه جميل على أصابعها.. تسعد الأم قليلا ثم لا تعيرها اهتماما بعد ذلك، وتكمل النقاش الحامي الدائر بينها وبين الأب..
تأتي خالتها لزيارة والدتها - الجدة - المريضة والمقيمة عندهم. تراها على نفس حالها فلا تبدي أي تعليق أو انفعال كعادتها مؤخرا، وبنفس الوجه الجامد تستعد للمضي لمنزلها. تلحقها هي على الباب لتسلم عليها، وتريها عَرَضًا اللمعة الفضية في أظفارها.. تطلق الخالة ضحكة فجائية مبتسرة، ثم تحافظ على ابتسامة حيادية ما، وتخرج..
يأتي الإخوة من المدرسة.. تقول سأغير طريقتي هذه المرة، فتلتقطهم مباشرة من على الباب وتعرض أصابعها في الشمس ليروا انعكاس الأشعة الذهبية على اللون الكريزي الجميل، فيسخرون منها لفضيان عقلها، بينما تعلن الصغرى أنها تريد فستانا بهذا اللون تماما في العيد القادم.. يكملون سخريتهم على الأختين معا، ثم يدخلون المطبخ باحثين عن الغداء..
تجلس الأخت وحدها في غرفتها، متطلعة للطلاء والنقاط الفضية اللامعة متناهية الصغر فيه، وتفكر أن لون الكريز به لا يحمل ابتهاجا ولا "نيلة"، وأن تلك اللمعات الصغيرة ليست جنيات بالغة الدقة ترقص وتغير أماكنها كلما حركت أصابعها، فتزيله من على أظافرها وتنزلق إلى المطبخ ..

................
26-12-2009

الحب في ليلة دافئة


"مشهد تخيّلي"
كنا عند عمو عبد العظيم بنحتفل بخروجه من الحبس. أحمد راح البلكونة عشان يشرب سيجارة، وبقية الناس كانوا بيتكلموا بنرفزة وعصبية، سبتهم ولحقت أحمد.. وقفنا ساكتين. بعدين أنا شميت الهوا، وقلت له: "الله، الهوا ريحته حلوة أوي، وهادية.. عارف؟ الحتة دي" وشاورت له بإيديا الاتنين، قلت له "ما بين إيديا ده جزء هادي ومسالم من الهوا. تعالى اقف مكاني وإنت ح تحس بالهدوء والسكينة. اقولك الجو محتاج ايه؟ محتاج اتنين شاي بالقرنفل، شاي حالي.. سكّرك ايه؟"
ودخلت اعملهوله. لما رجعت اديتله كوبايته، وقلت له دوقه، معجبوش أوي، بس إشطة يعني مشّى حاله..
منصور جه كمان شوية، شاور لأحمد من على جنب، إنه يمشي.. مشي
قعد معايا حوالين الترابيزة، اللي كان عليها طبقة تراب خفيفة. إزيّك؟ الحمد لله أنا كويسة، إنت عامل ايه؟ الحمد لله أهه. وبعدين سكتنا ما اتكلمناش. اديتله الشاي وقلت له جربه، شفط واحدة وسكت، وأنا سكتّ. قعدت اتأمل في الجنينة اللي قصاد بيت عمّو عبد العظيم، ومنصور ما شالش عينه من عليا..
رحت قلت له: "عارف الجو ريحته ايه؟" قال لي: "ايه؟" قلت له: "المطر.. عارف لما المطرة تنزل فوق تراب خفيف؟ ده بيبقى ريحة المطر.. أنا نفسي الدنيا تمطر أوي.."
سكتنا تاني، وبعدين بص لي ووشه بيتفرد شوية بشوية، ولمحة حزن بتلوح فوقه، وسألني: "ممكن اسألك؟" "اتفضل"، "ايه تعريفك للحب؟"
أنا: - الحب؟ إجابة كل الأسئلة.. لما تقف كل الأسئلة اللي مفردغة دماغك يمين وشمال. مش شرط تلاقي إجابة عليها، بس تحس براحة كده. بهدوء وسلام.. سكينة. الحب سكينة..
عارف لما يبقى جواك عشرميت حد في بعضيهم عمالين يتكلموا ويتخانقوا؟ الحب بقى اللي ح يخليك تسكتهم كلهم، وتنساهم، وتبقى واحد.. واحد وحيد..
إنت ايه تعريف الحب بالنسبة لك؟
منصور: - (وعينيه بتدمع شوية) إنك متحسش بالذنب. إن الإحساس المقيت ده أخيرًا يتشال من عليك. إنك تبطل تلوم نفسك. (يمسح  دموعه) عارفة؟ الحب إنك تبقى ريحتك فلّ على طول.
..أنا: - الله! ده أجمل تعريف سمعته للحب
منصور: على فكرة أنا بحبك..
:) ..لحظة صمت، ثم: أنا: على كده إنت ريحتك فُلّ على طول

لو متّاخد ردّيه *


لكَ عينان مثقلتان. لو خلعت نظارتك، سيظهر إرهاقهما جليًا.. تحيط تجعيدتان بركني فمك، دلالة على زمّ الشفتين، دومًا، كبتًا للمشاعر.. تتهدل خصلة من شعرك الطويل الناعم على وجهك، لتصطحب رشفة القهوة الداخلة، تمنيت لو أزحتها بيدي.. تمنيت أصلاً لو ربّتُّ على كفِّك، لتهدئ من إيقاع كلامك السريع الشبيه بالطلقات، وتستّكنّ.. سألتك ثلاث مرات عما بك، دائمًا تهرب، دائمًا هناك موضوع ما لتتحدث فيه، وأنا ما شئتُ الضغط عليك. أدركت بعدها أن دفاعاتك قوية وصلدة، وأني لم أنجح في هزّها، وأنها لو تهاوت، ربما تنهار أنت ذاتك، وأنا لا أريد لهذا أن يحدث..
أخبرتني بابيضاض شعيرات ذقنك، وأشرت على مكانها، وأنا تحرّجت من النظر، لا أدري لماذا.. سألتك متى حدث هذا، وأنا أظنه عاديًا مع بلوغك الثلاثين. لكن هذا لم يحدث، أجبتني بكلمتين، وأنا تنّحت تمامًا. شعرت بنغزة في قلبي، هنا بدأ الموج يتصاعد.. موجات من الحزن الثقيل الصافي، وإحساس متعاظم بالعجز، ارتفعت بداخلي، عَلَت حتى بلغت عينيّ، لم تهطل دمعًا في وقتها، مَحتني محوًا عندما وصلت للمنزل، وهاتفت صديقي الذي اتفقنا معًا أن نقرأ لأمين حدّاد وقتها.. ذَكَر كلمة "الأسى" وأنا صمتّ لبرهة، ثم انفتحت في ماسورة عياط مفاجئة.. أغلقت الهاتف وأنا أخاطب السقف وأحاول أن أفهم: "ليه طيب؟ ليه؟"..
..
لا تعرف أنتَ أني كتبت عنك تدوينتين، إحداهما قصة، والأخرى مديح في زمن كان أسهل.. كنا رائقين وقتها، بل إنك في وقت لاحق على كتابة ثانيتهما سألتني وأنت ترشف عصير البرتقال عن تعريف الجَمَال.. صمتنا وتحدثنا واحتفظت بنص المحادثة. لم نكن نتقابل كثيرًا، كحالنا اليوم، لكن هذا لم يؤثر كثيرًا على ترابطنا، ووجود أحدنا حين احتياج الآخر له..
...
يأتي البكاء دومًا يا عزيزي، يأتي قبل النوم، آخر اليوم، أول طلعة النهار، عند الردّ على المكالمات، صمتًا أو كلامًا، وسط النوم في شكل نهنهة عالية الصوت، عند ربتة مشروب الفراولة على الجوف، أو حين إغلاق باب غرفة الأولاد عليهما، إعلانًا عن عدم مشاركتهما حزنًا أو فرحًا، معي.. لذا لا تقلق، سأتدبر أنا أمر بكائي وسأتعامل معه، لكن لا بد من مقابلتنا.. حتى لو لم أملك لك شيئًا سوى الأحضان المبتسرة، تلك التي تضغط فيها جبينك على كتفي، وتختفي عن العالم ولو لبرهة.. سيكفي، هذا سيكفينا معًا، تمامًا، تمامًا..
_______________________________________
جزء من أشعار عُمر مصطفى
1-9-2013

إلى نادين


عزيزتي نادين سُليمان:
تحية طيبة
كنت أريد أن أكتب لكِ منذ الأمس، لكن مزاجي تعكّر جدًا بتأخر أخي عليّ، لزحمة الشوارع جدًا، واخذت أشاهد مسلسل “فتيات آل جيلمور”.. ربما كانت النقطة الجوهرية في الحلقتين التي شاهدتهما هي نظرة “لورالاي” إلى “لوك” بعد حديثهما المقتضب عن إمكانية إنجاب كل منهما لطفل إذا وجدا الشخص المناسب، وعند كلمتي “الشخص المناسب” نظرا طويلاً لبعضهما، ثم أدركا ما يفعلان وحوّلا ناظريهما بسرعة.. أحب البدايات والإرهاصات - الحاجات الصغيرة اللي بتقود للبدايات - وأرى مقدمة علاقة جيدة بينهما، واستعجلها..
نوفمبر قادم يا نادين.. الجو جميل منذ الآن، لذا استبشر خيرًا بأن نوفمبر سيكون أطلف جوًا، بحيث يمكننا المشي في أماكن صالحة للمشي، مثل الزمالك، لساعات دون أن نهتم لعرق أو حر.. نوفمبر قادم ومعنى هذا أن الذكرى ستعود، ربما تتجدد الاشتباكات، لأن الموتورين كُثر، ولا ألومهم، لا يمكنني لومهم، لا يمكن الحياة مع ثأر لم يؤخذ، وانتقام لم يتحقق..
نوفمبر قادم يا نادين وأنا سأسافر أوله.. سأذهب لبلاد تكره الألوان والنساء وتستمتع بحِبال عريضة وقوية تضعها أكثر فأكثر حول رقاب الناس، والناس بين صمت ولهو.. سأخرج من بلد طارد بطبعه لا يرحب بي قدر عدم ترحيبه بكل ساكنيه، وأذهب حيث حياة جديدة، كيلا تسألني الملائكة “قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها”؟ وأنا لا أعرف بما سأجيب الملائكة لو سألتني بأي شيء، وليس هذا فقط..
أمس طلبت من أخي أن يحضر الأشعة ويأتي ليصطحبني لطبيب الأسنان. فكرت بيني وبين نفسي لماذا أذهب كل مشاويري وحدي، لماذا أذهب لطبيب الأسنان - وهو صاحبي بالأساس - وحدي؟ وعندما طلبت من أخي القدوم ظهرت لي الإجابة: الشوارع مزدحمة ولعينة، اصطدمت السيارة ثلاث مرات بسيارات أخرى، كسرنا فانوس واكصدام ، أصلحه أخي على السريع ثم مضينا. كنا أغلب الوقت صامتين، يغلفني إحساس بالذنب الرهيب لأني كلفته بهذا المشوار بينما كان من الممكن أن آخذ تاكسي، كرهت نفسي أكثر لأني أريد رفقة عند الذهاب لمشاويري.. لم يخلقنا الله لنتفرق، يجب ألا نفعل..
الحياة صعبة يا نادين.. لكنها أحيانًا تهون وأحيانًا نتناساها. مثلما أخبرني طبيب الأسنان أمس بأن أسناني سليمة، وأن استمر على العلاج، ولا داعي لأي عمليات مؤلمة. فرحت جدًا، وتقافزت في الشارع، وقبّلت أخي، وعرضت أن اشتري له شيئًا كنوع من الترضية. لم يوافق، وابتسم ابتسامة مبتسرة، ثم مضينا باتجاه السيارة. صمتنا. 
أرجو من الله أن تسهل أمورنا لحد نستطيع احتماله، بدلاً من أن يفيض بنا الكيل ونبدأ في طرح أسئلة من نوعية “اشمعنى أنا؟”، ولا نجد إجابة.
شكرًا لمجيئك يا نادين، سعدت بالحكي لكِ، ابقي تعالي كتير :)
9-10-2013

استوحاش


الليل مفزوع لمّا سبته يا عبد الله*. ارجع فيطّمن..
من امبارح والجملة دي بترّن في وداني.. عايزة اكتب لك. عايزة أقول لك إنك كبير بينّا.. شفت إمبارح صورتك. تصدق إنها أول مرة أشوفك فيها؟ دايما بيتكلموا عنك ويوصفوك.. شفتك من بعيد في بداية العام 2012، كنت تحت في الاستاد وأنا في المدرجات، أختك شاورت لي عليك بفخر وقالت لي عبد الله أهو، وأنا انبسطت جدًا إني شفتك ولو من على بُعد..
شفت صورتك وإنت يا عيني واقع على الأرض، يوم 28.. دلوأتي صدقت أسطورة إن الألتراس هما اللي فتحوا الكوبري يوم 28، وواجهوا المية والمدرعات والرصاص وانتصروا.. دلوأتي صدقت أسطورة الأبطال الخارقين، المحيطة بالألتراس، وإنهم فعلاً كده..
وشّك فيه تجاعيد.. بس دي مش حاجة وحشة، إطلاقًا، ده شيء جميل كونها محيطة بفمك، ده معناه إنك دائم الابتسام، والضحكة الخفيفة يا عبد الله دايمًا بتدخل قلبي من وَسَعه، وتقعّد صاحبها جوه مستربع، وتجيب له قهوة، وشّ سميك وسكّر زيادة..
مش ح اقدر أوعدك إني أقابلك بعد ما تطلع إن شاء الله، زي ما وعدت رفاق كفاح كتار قبل كده، والظروف مظبطتش. المرة دي أنا عارفة إنها مش ح تظبط لأني مسافرة. ح توحشني شوفتك رغم إن عيني في الحقيقة ملمستش وشك قبل كده، بس أنا عارفة إن المشاعر يمكن تتنقل عبر الكلام، فيمكن لما تقرا الكلام تنبسط، أو حتى تبتسم ابتسامتك الواسعة الطيّبة دي.. ربنا يحميك يا عبد الله، ربنا يحميك :)
الليل اللي نزلت فيه مسيرات وهتفت وحمّست، سيّرت ناس كُتار كُتار وراك، الليل اللي وقفت ودافعت فيه، اتعورت ودفعت التعاوير عن ناس كتير، الليل اللي قعدت فيه ع القهوة وخططت وضحكت واتكلمت واتناقشت وتحمّست وشتمت ودافعت وقلت ماشي  وقلت إشطة وقلت إن شاء الله.. اتوحّشت الليل يا عبد الله فبات مفزوع، متسيبوش كتير، تعالى ووّنسّه.. :)
______________________________
عبد الله صلاح، أو عبدينيو، كابّو ألتراس أهلاوي*
لمزيد من المعلومات، هنا
28-10-2013

ذِكر الأيام الهادئة: عن محمود كمال



يدندن بنبرة هادئة حنون "في عينيكي غربة وغرابة" لمنير:
"امتى اتقابلنا وليه وفين
لحظة قدر ولا حنين"
فتنسى حين تسمعه تمامًا صخبه الزاعق في المسيرات، حين يصوّب نظره إليك، مثبتًا عينيه على مقلتيك، يهتف بعلو الصوت من أعماق قلبه، مستمدًا القوة منك وممدّك بها. يستوحي الثبات والمواصلة من أصحابه، ويوحي بهما إليهم. ينتظرون وحيه بإيمان أنبياء أنهم حتمًا على الحق، فحتى لو غاب عنهم بسجن أو حبس، فهم يستحضرونه، على قلة عددهم، ويكملون دربه واعدينه بالنصر، و"مين من الأنبيا مكانش قلّة مندسّة".
...
"حبّني الشارع وحبيته
عضّ قلبي الليل وعضيته
خضّني الإنسان وخضيته
لما بان من وشّه عفاريته"
.
يظهر محمود مبتسمًا في صورة تعود لنوفمبر 2011، مرتديًا خوذة عُمّال البناء، وكمامة الأمن الصناعي مستقرة على صدره، والحطّة الفلسطينية تحيط برقبته. يحكي محمد نبيل عنه بأنه كان يدخل بصدره في شارع عيون الحرية فيُسمع لبلي الخرطوش انهمار على خوذته، ينصحه نبيل بالرحيل فيرفض قائلاً "أديني شايل عن ناس كان ممكن ينصابوا بالبلي ده".
يحكي لي محمود نفسه عن بطولات نبيل، يغبط نفسه على معرفته وصحبته، ويتمنى أن يصبح مثله. يقول في صوت مقرٍ بالحقيقة ولا يحاول التردّي بزيف ادّعاء البطولة المطلقة: " بييجي في دماغي محمد نبيل ميقدرش ميجيش في بالي ، كان معايا في أغلب الدخلات اللي دخلناها. بيجي في دماغي مرة قررنا منكتفيش لإننا نوصل عند التقاطع اللي بين شارع محمد محمود ومنصور، لا إحنا كمان دخلنا يمين في اتجاه الوزارة المنطقة اللي مكانش حد بيقرب لها خالص حتى إحنا كنا أول ناس بعد أول صف (حامل الراية). في مرة دخلنا لغاية جوه كنا احنا الاتنين جالنا الحماس إننا ح ندخل رحنا دخلنا، وبعدين اترمت علينا قنبلة راح محمد نبيل تِعب قلت له خلاص نرجع واخدته ورجعنا، اكتشفنا إننا كنا أضعف مما كنا متيخيلينه..".
في ديسمبر 2012، وعقب صدور الإعلان الدستوري وتمرير الدستور نفسه بسرعة غير عادية، أعلنت القوى الثورية اعتصامها في محيط قصر الاتحادية. حدثت اشتباكات حادة بين الإخوان ومناصريهم ومعارضي الرئيس ومناصريهم. يحكي محمود عن هذه الفترة أن الضرب بالخرطوش الكبير، القادم من ناحية الإخوان، لم يتوقف للحظة، وأنهم تعرّضوا لرصاص وغاز أكثر من أيام محمد محمود الأولى. ساعتها عَمِل محمود كساعي إسعافات أولية، يحمل المتضررين من الإصابات المختلفة لخطوط خلفية حيث المشهد المعتاد من القطن والشاش والبيتادين، والمعاطف البيضاء الملوّثة بالدم. ربّاه، لم ينقطع تكرار نفس ذات عيادة الطوارئ والتروما المرتجلة في كل ميدان، منذ 2011 حتى الآن. متى ستتوب علينا يا رب من تكرار تقطيعة القلب وملل التاريخ؟
....
اتذكر لمحمود موقفًا شخصيًا. كنا في ديسمبر 2011، وقد قررت 6 إبريل مناصرة مبادرة "كاذبون" بعرض تسجيلات الفيديو الخاصة بفضح جرائم العسكر في أحداث محمد محمود الأولى ومجلس الوزراء. اتذكر أني اعتراني دوار رهيب لمّا كانت تلك مرّتي الأولى في مشاهدة ما حدث، ولم احتمله. جاء ووقف إلى جواري صامتًا، لم يدرِ ما يقول ولا أنا انتظرت كلامًا. كان ما نشاهده فوق قدرة أي كلام على الوصف، وقدرة بشر على التحمّل. ارتفع بكاء أمهّات من حولنا وأدارت أخريات وجههنّ بعيدًا، وإن وصلتنا صوت بكائهنّ المكتوم. استندت إلى عصي الأعلام التي كنت أحملها. في ذلك الوقت، كان علم البلاد شيئًا عزيزًا، نحمله لنؤكد على صدق نيتنا بحمل الخير للوطن، قبل أن يمجّه أنصار العسكر وقاعدة عريضة من الشعب، جعلتنا نحن الثوريين، قلّة مندسّة، وخربت رمز العلم.
في غيابك يا محمود أُترَك لأبكي وحدي، في الشارع وبصوت عالٍ، دون أن يربّت أحدهم على كتفي أو تأخذني أمّ في حضنها. في ديسمبر 2012 وعندما كانت الحركة تعرض فيديوهات "كاذبون" أيضًا، لكن هذه المرة عن مقتل جابر صلاح رحمه الله، وقفت في منتصف الشارع بين ذاهب وغادٍ، كلٌ لشؤونه الخاصة، وبكيت جدًا. لم يقف أحد جواري. فقدنا قاعدة شعبية يا محمود ووقعنا في حيرة لم نعرف معها لماذا، أو ماذا نفعل الآن، ومن يواسي حزننا. كنا بحاجة لهدنة للملمة ألمنا، وجَبَر خواطرنا..
في عز الحوجة مبتجافيش يا محمود. أفكّر في عمل مجلدات ضخمة وسلاسل أفلام بعنوان "ذكريات فشيخة"، يكتب فيها كل شخص ما جرى له وشاهده وسمعه من أيام الثورة الأولى حتى الآن، فما جرى ويجري غير إنسانيّ بالمرة، ويحتاج عقولاً لا تحابي المنطق لكي تستوعبه، ولن تستوعبه.
...
"أحلم على شالك وأنام
كإني فرد من الحمام
برموش عينيكي تغطيني
رمشك شطوط طب رسيّني
إنتي أنا
وبكرة ليا وليكي
ليا وليكي.."
في صورة له غير منتشرة كثيرًا، يقف محمود بجوار خطيبته رنا، مبتسمين جدًا للكاميرا. ما لم يقله تعليقاهما على الصورة، اكتفت به أعينهما: فخر لدى محمود، امتنان، وعد للبقاء حتى تحترق النجوم، وحتى.. ابتسامة صافية عنده، يقابلها ابتسامة جميلة تصدرها رنا، واعتزاز لوجودها بجواره، وفي حياته.
تمثل هذه الصورة حضنًا قويًا وأليفًا لمن يراها، وطمأنة بأن القادم لا بدّ أحسن، وأن عيونًا كهذه صادقة على الوعد تنير لنا طريقًا وتفتح سكّة، وتقول مسيرها تروق وتحلى، حتى لو كانت وحلة J.
....
تشبّع محمود بسمرة القمح فتشرّب طيبته، صار بطيبة وجمال الأرض الطينية ورُطب التمر وصوت منير. أعطته سمرته مع ابتسامة وضيئة مدخلاً مباشرًا لقلب من يراه لأول مرة، مع مهابة جانب وقوة حضور تثبّته على أرض صلبة تمنع العبث معه. سمرته مدفئة للروح مثلما البطاطا الساخنة للجسد، في جوّ العصر الجليدي الذي نزل بالبلاد أخيرًا.
...
يتقافز محمود في هذه الأيام الهادئة الخالية من الاشتباكات بين عنابر المسجونين، محاولاً رؤيتهم وإدخال الإعاشات إليهم. في مكالمة عابرة للبحار إليه سألته ماذا كان يفعل في ليل 25 يناير، فقال بأنه يجمع قوائم بأسماء المعتقلين، وأضاف بنبرة حزينة: "خدوا مننا ناس كتيرة أوي يا رزان". وعندما صمتّ ولم أجد ما أردّ به، سألته سؤالي الاعتيادي: "وإنت عامل ايه؟" فأجاب بأن الناس محبطة جدًا. تجاهل نفسه وأحواله ليبوح بقلقه على المحيطين به. بس على مين، فلم يمض سواد الليل إلا وكانوا معًا يبحثون عن المحبوسين ويوصلون إليهم المدد ويبتسمون في وجوههم، ليجدوهم على حالٍ من طمأنينة من عرِف صحبه الحامي لظهورهم وقت الشدة، المبتسمين بدورهم.
...
القلوب هشة يا محمود، والثبات على الثورة صعب، والخبطات تتوالى، نسقط ونقوم. فلسنا لعبًا تُكسر ولا تنصلح، لكن قومتنا قد ترتبك، لا تعرف العنوان إليها فنتوه قليلاً.
في ليل التوهة يا محمود تعرف أنت الإجابة، رغم تهوّرك، تعرفها وتغنيها لنا وتبتسم لأعيننا الكليلة، فنشرق ولو قليلاً، ولو حبة صغيرين، لكنها كافية. حفظ الربّ روحك يا محمود، حفظ الربّ روحك. :)

الحرية للمعتقل الذي نعرفه: جاميكا

"يا صحبتي في الهمّ
يا شِركتي في الدمّ
عزوتنا لو نتلمّ
ونغنّي للفقرا"
...
غنى إمام عيسى بأن نار الغلّ في أيلول – سبتمبر، اتفاقية السلام – ونكسة يونيو أسوأ من ريق المرّ الناتج عنطعم الرزايالم يتصوّر أن تحمل باقي شهور العام نيرانًا أشد غلاً وذلاً ومرارًا، خاصة شهر يناير، على أيدي نفسالخمسة بالمائة الحاكمة الغشيمة، والتي لا تسعى إلا لتثبيت معتادي الحكم فيهفي 25 يناير 2014 قبضتالأجهزة الأمنية على عدد كبير ومتضارب من الناشطين الثوريين، يتراوح عددهم بين 100-1000، في شتىأراضي الوطن الجالب لشقاء أهله؛ ومنهم كريم، ومنعوا وصول المحامين إليهم في محابسهم، لتمثيلهم أوالتخفيف عنهم.
***
"سهرتنا صبّاحي
طول ما الألم صاحي
يا شوقي يا جراحي
يا حبّي يا بكرة"
...
بالتأكيد تصوّر الشيخ إمام وهو يدندن بهذه الكلمات في مطلع الثمانينات أنها ستصلح لما يقرب من ثلاثين عامًابعدهايغنيها كريم في زنزانته، بصحبة رفاق العنبر، محاولاً تحميسهم ونقل عدوى الأمل إليهم، ويؤكد على آخرسطر منها، ثم يبتسم في وجوههم فيضيء محيّاه، ليكون آخر ما يروه قبل إطفاء النور الإجبارييدير رأسهالحليق قسرًا ناحية الجدار المنحوتة عليه أمانٍ وأدعية، ويحاول النوم.
***
يصف مكمال رفيق كريم "جاميكافي النضال، أن طفلي الشهيد أحمد المصري لم يعودا غريبين عن كريم؛ حيثيختلف إليهم في زيارات منتظمة على مُدد متقاربة، يرعى شؤونهم ويحمل إليهم اللعب والفاكهةاتذكر صورتهوهو يُجلس ابنة المعتقل محمد مصطفى على رقبته، انتظارًا في الشارع المقابل للمحكمة انتظارًا لسماع الحكمعلى والدها.
لم يحابِ كريم أولاد المصري لأنهم أبناء أعز أصدقائه، الذي اختطفه رصاص الأمن المركزي أثناء تصويره فضّ اعتصامالنهضة في أغسطس 2013، بل كان وسيظلّ هذا موقفه مع كل أبناء الذاهبين لغيابات السجن أو الصاعدةأرواحهم لعند الله، بينما تضم الأرض رفاتهم.
***
بين رفاق كريم شباب يافع، ممتلئين حماسة وأملاً عظيمًا في قدرتهم على التغييريحكون عن "تبنيهلهم،فيقول أحمد حسام: "من أجدع الشباب اللى ممكن تقابلها، زى ما بيقولوا "يا بخت اللى صاحبه جدع ". كان دايمابيساند المعتقلين.. كان بيسيب أي حاجة وراه و يروح يزور المعتقلين."
ويكمل: "كريم معاياأبويا الروحي.. بيخاف جدا علينا و دايما بينصحنا، و لو فى اشتباكات كان دايما خايف علينا.كريم جدع و شهم و مبتكر.. دايما كان بيطلع أفكار كويسة ومحترف فى منهج اللاعنف. #شكرا كريم طه، اتعلمتمنو حاجات كتير."
ويزيد عليه محمزة: "كان على طول أطفال عزبة العرب واحشينه، على طول كان هو أكتر حد بيفتكرهم و يقعديقول الناس دي مينفعش نسيبها."
ثم يضيف: "بابا الروحي.. من زمان كانت نصيحته متبقاش همجي و ثورجي و خلاص، فكّر خليك مبدع.. لازم تبقىكادر ناجح بس.. وبعيدًا عن إنه بابا و كده فكفاية إنه يدخل وسط النار عشان يطمّن على بنت."
***
تبدو الصورة غيامية مؤلمة، فبعد أن ذهب جاميكا كنوع من المؤازرة مع المناضل أحمد ماهر مؤسس حركة 6إبريل ليسلّم الأخير نفسه عقبما استدعته النيابة، أخذوا ماهر وانهالوا فجأة بالضرب على كريمأكثر من ثلاثينجنديًا وضابطًا من الأمن المركزي، وبكعوب البنادق وبالأرجلبالتعبير الدارج "حفّلوا عليه"، أي التهموه حيًا ولميتركوا منه ذراعًا ولا إصبعًا.
لم يترك جاميكا هذه الحادثة تؤثر عليهعاود نشاطه مثلما بالسابق وأكثر، وفي الذكرى الثالثة للثورة انضمللمظاهرات الخارجة من مسجد مصطفى محمودكان بآخر الصفوف ليضمن أن الشباب كلهم بخير، وكانيطمئنهم دائمًا بأنه "متخافوش، أنا معاكم". وعندم ابتدأ الضرب بالغاز والخرطوش كان هناك فتاتين متأخرتين عنالجمع، ووقعوا في منطقة الناردخل كريم وسط الضرب لينقذهما، فكان أن قُبض عليهما يحكّ بذهني الآن ما لابدّ أن يراود الفتاتين من إحساس بالذنب، لكنكما لم تكونا السبب في اعتقاله، لم يكن أي منا سببًا في أيمكروه حدث لرفيق كفاح، فبعد كل شيء نحن لم نضغط على الزناد، أو نغلق الكلابشات على أيدي الرفاقكلما طلبناه كان خبزًا وحريةونحن لم نخطئ.
***
هل هو صدأ بالقلب أم أن تكرار مرّات احتجاز الرفاق أورثني حصانة من الألم؟ أذكر في المرة الأولى التي حضرتفيها اعتصامًا للإفراج عن رفيق مناضل، جورج رمزي، أني توقفت عن الأكل وإن ليس عن طبخه، وصار نوميخفيفًا، انتفض لأقل تفصيلة مفاجئةساعتئذٍ كتبت تدوينة عنه، وناشدته أن يخرج، ليعود لي الإيمان بالأشياء.وعدته عند خروجه بأطباق تُطبخ خصيصًا له، وبتجميعة صِحاب تعوّضه عن الحبس الانفراديكنت أشعر بالذنبلأني اتنفس هواءً عاديًا، ليس محاطًا بأسوار ونوافذ ضيقة، وبأني أرى الشمس، ولي الحرية في عمل أي شيء،حتى لو كان عبور الشارع، وتقرير إلى أي اتجاه سأذهب، يمينًا أم يسارًا.. ذلك الإحساس المتواصل بالذنباختفى الآن، وصرت أحضّر قهوتي بصفاء ذهن، بل إني أحيانًا أدندن.. ما لا تعرفه يا كريم أني عند استسلاميلأفكاري وحدها، وإطفاء كل الأجهزة المتصلة بالإنترنت استعدادًا للنوم، اتخيلّك خارج السجن وأنا استقبلك بلهفة،أسلّم عليك، أجدك بنفس الابتسامة، نفس الشعر الذي أصرّيت على نفشه في الآونة الأخيرة، ما زلت مقاومًاوصامدًا وساخرًا، ما بقلبك على لسانك، وتخصّني بمعزّة خاصة تبهج قلبي وتجعله مزأططًا كده.
ستخرج يا كريم، أعرف هذا يقينًا، ستخرج بإذن الله، وسترى الشمس كما تحبهناك صورة منتشرة بكثرة علىمدونات تمبلر، تحكي عن سطرين من الشِعر مخطوطين على جدار، بخط رقعة منمق:
"غــدًا ستــشــرق الشــمــس
وأنا..
أحبُّ الصبــاح كثيــرًا."
______________________
نُشر في موقع "قُل" بتاريخ 7-2-2014:
http://qoll.org/UI/Front/Inner.aspx?Aid=297#.U0VsAfmSxUW

وبعد كل ذلك، لم تتألم روحي كثيرًا

"يجب أن نختبئ قبل نهاية العالم"

في فيلم الباب المفتوح، المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للطيفة الزيّات، يأتي البوليس لشقة محمود التي يعيش فيها مع والديه وأخته، والخادمة الصغيرة، ويعتذرون للوالد: "معلش أصل عندنا أوامر" ويعتقلون محمودًا لأنه شارك في العمليات الفدائية. تظهر "ليلى" في الخلفية، متطلعة إليهم من فتحة صغيرة بين ضلفتي باب حجرتها، وتغلقها عليها جيدًا بعدما يذهبون. تتدثر بالبطانية جيدًا، وترفعها إلى وجهها، لتغطي رأسها كله. أعلنت ليلى سياسة المعركة القادمة: الكمون، والاختباء عن العالم.
تصبح الخطاوي ثقيلة. دبّ القدم نفسها على الأرض مسموعٌ وله وزن. صوت "التكحيت" في الأسفلت أو رصيف الشارع المكسّر لأنكِ غير قادرة على رفع قدميكِ. لهذا تصبح أشياء بسيطة وبعيدة المنال مثل أرجوحة في هواء طلق وبعيدًا عن المتظرفين هدفًا لوقف الزمن، قليلاً. اتذكر في فيلم "كبرياء وتحيّز" بطولة كيرا نايتلي، عندما كانت تلجأ لأرجوحتها المصنوعة من كاوتش سيارة نقل وحبلين قويين، هربًا من صخب منزلهم بأختها التي تعزف على البيانو دائمًا، وأمها دائمة الحديث عن الزواج. كانت تستمتع بإحساس ارتفاعها عن الأرض، وعدم اضطرار قدميها لحملها. يشبه الأمر الطفو فوق عوّامة ممتلئة بالهواء، في بحر هادئ نسبيًا. فكون أن الماء أو الكاوتش يحملك عن الأرض، يرفعكِ معه قليلاً، يخفف من ثقل الخطو وبعثرة السُبل، مهدئ لحدٍ كبير.
تركت ليلى نفسها في الرواية وهي في قارب في النيل. تركت المجدافين ودعت الماء يحملها كما أراد. ودّت لو يبتلعها الماء، فيرحمها من التفكير الدائم، والخيارات التي تتمزقها. في عالمنا الحالي، يصبح الهرب ترفًا، فالأخبار السيئة تلاحقكِ أينما كنتِ. الاعتقال على بعد شارع واحد منّا، والمظاهرات في شارعنا، والقنابل وصلت لشرفتنا. هل نبحث عن عالم أكثر قذارة من هذا؟ نعم، يوجد. التعذيب في الأقسام، القتل الممنهج، العنف الشعبي ضد أفراد من الشعب، مثلهم أو أكثر قليلاً، وجرائد دولية تكتب عن الاضطراب العقلي الذي عمّ أرجاء مصر. هل تبحث عن مخرج؟ هذا بلد يمسك بتلابيب ساكنيه ليقتلهم أكثر، حتى إذا جاء ميعاد صعودهم للسماء، أخذ الملاك أرواحهم وهم يتساءلون عن عدل الله وحكمته. فلندعُ معًا أن يرحمهم الربّ من الشكّ أحياءً، ومن المؤاخذة في الحياة الأخرى.
تُنهي نوران إبراهيم إحدى قصصها القصيرة المنشورة على مدونتها بتساؤل: "هو إحنا زمان اللي كنا خُفاف ولا هي الأض دلوقتي بقيت بتشدّنا؟". الحقيقة يا نور أن الأرض ما فتئت تجذبنا ناحيتها بقوة مغناطيسية غريبة، لكننا كنا نعافر. كنا قبل التخرّج نحلم بأمانيّ عريضة، وبأننا سنغيّر العالم. أذكر أني كنت قد أطلقت لقلبي العنان في ميله الأول، نحو شخص جميل المحيّا والداخل، وكنت أنوي أنه بمجرد إعلان خطبتنا سنكتب عن الحبّ: "ح نعلم العالم إزاي يحبّ". هكذا، وبسذاجة من على أعتاب العشرينيات. حسنًا، الحاصل أننا لم نُخطب، وأن صديقة لي – ريهام سعيد – أنشأت مدونة حاليًا لتكتب عن مشاعرها وتفاعلاتها مع خطيبها، وأنها حققت حلمي بتعليم العالم الحبّ. إلى متى سندع للآخرين توكيل تحقيق ما حلمنا به؟
أقول قبل التخرّج كنا نركل الأرض بقدمنا ونطير. رسمتني هاجر مرّة فتاة صغيرة بجناحين وتطير مع مجموعة بلالين، قبل ظهور فيلم "فوق" الذي طيّر بيتًا حقيقيًا ببلالين هيليوم، بحثًا عن شلالات الفردوس. في عالمنا، لا يوجد سوى شلالات الخراء الفكري والفعلي منهمرة فوق رؤوسنا يوميًا، ولم نعد نملك ترف الاختباء. أين نذهب ياربي؟ أين نذهب؟
"أهرب من قلبي أروح على فين؟" لطالما اعتبرت هذا السؤال موجعًا جدًا. أين سأذهب من الصور التي تلاحقني، والوجوه المعلّقة في السماء السوداء أينما نظرت؟ هناك تسجيل بصوت هادئ وواثق، اسمه "التأكيدات"، استمع إليه في الليالي العصيبة، قبل النوم. يقول التسجيل: "أعرف أنني هناك، بالماضي، لم استطع عمل شيء"، و"اتسامح مع نفسي التي لم تستطع اتخاذ القرارات السليمة، في الأحداث الماضية"، و"سأتوقف عن زيارة الماضي ومراجعة أحداثه، لأجنب نفسي المزيد من الألم، وبهذا أجلب الكثير من الطاقة الإيجابية والقوة، إلى حياتي"، وأخيرًا: "قد حان الوقت ليحرّكني الحب والاحتفال بالحياة، والرغبة في التعبير عن ذاتي".
لكن يظل خيار "إغلاق العالم" مراودًا عن نفسه، يلوح في الأفق، قادمًا أو مغادرًا، لكنه موجود. في نوم طويل ثقيل، بمنوّمات مثلاً أو بعد شرب أطنان من الكاموميل والتلبينة باللبن والعسل، أو الشوفان المطبوخ بالعسل مثلاً يعني، أو مجرد كورن فليكس بلبن دافئ، مع ترك الرقائق لتلين. يمكن سماع فيروز مثلاً، تقول علموني على حبّك ولاموني، ونقول لها إن الموسيقى تعرف، الرحابنة يعرفون، رابسودية فيفالدي للفصول الأربعة على عِلم، منير قالها من قبل كثيرًا، خصوصًا أغانيه "السنجل"، ويانّي عزف لنا وحدنا، خصيصًا لأجل قلوبنا التي علاها الصدأ.
يارب، وعشان خاطر كلمة "يارب"، هدّئ أرواحنا في رحلة عودتها كل يوم صباحًا لصدورنا، واجعل الفجوات التي نمشي منكفئين لنداريها، اجعلها لا مرئية، وهوّن علينا الحزَن كلّه. آمين.


__________________________
:نُشر في الشروق بتاريخ 13-3-2014
http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=13032014&id=47f5c578-bf93-4fe5-91f6-e58182ec2d51

"ممكن تسرق ساعة وتشرب القهوة معايا، بقا؟"

تتوجه فيروز كراوية، الحاصلة على الماجستير في الدراسات الثقافية بهذه الدعوة للولد الذي يعجبها، مبررة طلبها بأنه "أصل الحكاية إني ساعات بأستلطفك".. تريد أن تحصل على بعض الوقت لهما معًا، لتستكشفه أكثر، ربما يعجبها أكثر، ويتطور الأمر ليدخل المشهد شقة صغيرة وطفلان ملوثان بالشوكولاتة، وضاحكان رغم ذلك.
لفترة من الوقت، كنت أعجب بفتية- أفضل تسميتهم "أولادًا"- أراهم حولي. لم يكن في كليتنا أولاد كثيرون، كانت البنات أغلبية، لدرجة أن فصلاً يضم 150 من الطلبة كانت البنات فيه 149 والأولاد واحدًا! إضافة لأني كنت كالقطار المتحرك على قضبان محدد مسبقًا: الدراسة، قاعات المحاضرات، الصف الأمامي دومًا حتى لو اضطررت للشجار من أجله، المكتبة برفوفها المتربة التي تثير حساسية قديمة، باص عم سيّد، ثم العودة للمنزل.
الترفيه الوحيد الذي سمحت لنفسي به هو المرور على بائع الجرائد كل يوم أربعاء لشراء الدستور في إصدارها الثاني، أيام خالد كسّاب وضربة شمس وطلال الفيصل ودعاء العدل. إحدى صديقاتي القاطرات أيضًا استفادت من وقتها أكثر، فقرأت جُلّ أعمال ديستويفسكي، الترجمة الكاملة لسامي الدروبي.
تعرّفت على أحد المنتديات الأدبية، ومن هنا بدأت الحكاية. كنت أستلطف شابًا فأتابع كل ردوده وكلماته التي يكتبها، وأخجل من التعليق عليها "لياخد باله!".. كنت أقرأ كثيرًا جدًا، وأقضي الساعات على الإنترنت متابعة كل شيء، قبل العصر الذهبي للفيس بوك طبعًا. أكتب على مدونتي أن الجمال له ناسه، وأن كذا وكذا رأي صائب طبعًا- رأي ولد بعينه!- وأن الطول يزيد الشخص وسامة، وما إلى ذلك. أقول لو قرأ مدونتي سيعرف أني مهتمة به، وربما يبادلني الاهتمام.. لكن، تفصيلة صغيرة: لم أُعطه المدونة أصلاً!
كنت أخجل جدًا من محاولة الحديث لشاب، وأصمت في حضرتهم تمامًا. لم يعرف أحد ممن أعجبت بهم حقيقة مشاعري نحوه، تبعًا لهذه السياسة. وكنتيجة، جميعهم الآن متزوجون/في طريقهم لذلك، وأنا وحدي تعيسة أفكر في الليالي التي أسهرها أني "لو كنت لمّحت له!".
الآن كبرت قليلاً، وصرت أراقب من بعيد وعلى حذر ولدًا ما، وأقرر أني سأعجب به. أخطط للقاءات تجمعنا، أفكر في كلام أقوله، ثم أجبن في اللحظة الأخيرة. الأوقات التي تصدف وتنجح فيها المخططات أجلس صامتة كجرس مخروم، مما يشجعهم على الاسترسال في الكلام. جمعت لديّ حتى الآن مجلدات ضخمة من حكاويهم وقصص حياتهم وما مرّوا به، خصوصًا بعد تفتح موسم الأمل في مطلع العقد الثاني من الألفية. لم يعرف أي منهم الكثير عنّي.
يتطلب الأمر شجاعة خارقة، لكنها ممكنة التحصيل: لمّحي له! قولي له أحب كلامك، أحب حديثنا معًا، أحب عندما تنصت إليّ، لا أريد الذهاب لهذا التجمع بدونك، "عوّدت عيني على رؤياك". أم كلثوم، كونها تراثًا شديد الخصب والإنسانية، عبّرت تقريبًا عن كل ما نريد قوله، بجيش الشعراء الأفذاذ الذين كتبوا لها. يمكنكِ عزيزتي الاقتباس منها، لكن من اللطيف أيضًا الخروج بكلامك الخاص.
في إحدى الفترات، والتي أعقبت إحدى الشدائد التي ألّمت بي، فقدت قدرتي على التعبير. لذلك كنت أنبهر باستطاعة الناس أن يصيغوا مشاعرهم في شكل كلام، وأن يخرجوه من أفواههم مفهومًا، ويوصل رسالة محددة ولطيفة. كنت أستعين بصديقاتي كي يترجموا لي ما أشعر به، وتجنّبت الولد الذي ظللت هائمة به أسابيع، ثم قررت أن اللعبة كلها لا تناسبني، وأن عليّ حلّ مشاكلي الشخصية أولاً قبل اتخاذ قرار البوح، أو لفت الانتباه.
أشفق على نجوى، في فيلم "في شقة مصر الجديدة" تأليف وسام سليمان وإخراج محمد خان- زوجان بالمناسبة- لأنها تعلمت عن الحب من مدرّستها في الرابعة عشرة من عمرها، ثم أقصيت تلك المدرّسة، ولم يعد أحد حولها يؤمن بالحب. ظلّت وحدها تبحث عنه، حتى بعد بلوغها الثلاثين، واضطرارها للقبول بشاب لأن "مفيهوش عيب".
أؤمن بأني محظوظة جدًا بأصدقائي الذين ما فتئوا يشجعونني على التمسّك بحلمي، ببيت لطيف هادئ يشاركني فيه شخص أحبه، وأن الحب موجود حتى في أحلك اللحظات ظلمة، وأني حتمًا واجدته، فقط عليّ البحث، والسعي للعثور عليه. في نهاية الفيلم، ترسل أبلة تهاني لنوجا رسالة مفادها بأن الانتظار الطويل الذي قضته قد كُلّل بالنجاح أخيرًا، فقد وجدت حُبّ حياتها. امتدح نوجا على شجاعتها لإيمانها بالحلم، ولسعيها لإثبات وجود أبلة تهاني، وأطيافها الباحثة عن الحب، ومن ثمّ إيجاده. انتهى الفيلم بأمل مكالمة نجوى للأستاذ يحيى، وأمل اللُقيا.
لا يمكنكِ الانتظار للأبد، كي "ياخد باله" ويقرر أن يهتم بكِ ثم أن يخبركِ بذلك. خذي خطوة أولى، لن يضرّ ذلك أحدًا، فعلى الأقل ستعرفين ردّ فعله مباشرة. نعم، أعرف أن لدينا تراثًا هائلاً من السخرية والتبكيت في الفتيات اللاتي يعبّرن عن رأيهنّ بحرية، ويقال عنهنّ أشياء كثيرة. دعكِ من هذا كله، اختاري مصيرك بيدك، اختاري الطريق الذي تريدين المضيّ فيه، اصنعي خياراتك وامضي فيها. تحلّي بالشجاعة، لأجلك.



____________________________
 5-2-2014:نُشر في الشروق بتاريخ
http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=05022014&id=93e299a8-143d-4307-90cd-12e99cf71bd6