Saturday, August 30, 2014

تضيق فأبحث عن هيفاء



أنا مبقوقة جدًا.
خدمة الإنترنت معطّلة لخلل في النظام، نتصل بهم على التوالي: يصرخ فيهم أخي الأصغر أنه لا يعيش في الصومال، وأنه حتمًا خدمة الإنترنت هناك أحسن من هنا بكثير، وتطلب أختي الكبرى أن يحضر لها موظف خدمة العملاء رئيسه، فيخاطبها بكل برود أنها مشكلة يومين وتتحلّ، ليزيد صراخها ويستحيل كونيًا خارجًا من النوافذ والستائر بأن المشكلة دامت أكثر من شهرين. أخاطبهم أنا، ولأني لا أعرف كيف أصرخ فأبقي صوتي منخفضًا وأشكر الموظف كثيرًا، إذ يلوح لي إرهاقه الثقيل من صوته.
الحالة تعبانة يا ليلى. الجملة السابقة من غناء  فرقة "مشروع ليلى". لهم أغنية أخرى، تتعب لي قلبي جدًا، يقولون فيها "مسكتي لي إيدي ووعدتيني بشي ثورة. كيف نسيتي؟ كيف نسيتيني؟" توقفت عن الاستماع للفرقة كلها من الأساس لأن الألم تجاوز المعنوي لنغز مستمر في صدري، نغز حقيقي، لا تنفع معه المراهم أو المسكنات. متى ضاع منا كل شيء؟ لماذا صمتنا؟ متى لملمنا أجنحتنا وكفكفنا دمعنا وقلنا إن كده كفاية؟ لماذا قلت أنا "كده كفاية"؟ ولماذا لم أعد قادرة على النزول؟ متى تمكنّ رُهاب الأماكن المفتوحة مني؟ كيف نسيتي؟ كيف نسيتيني؟
أنا تعبت جدًا.
أعمل حاليًا على كتاب مؤلم جدًا. يتحدث عن الصدمات "التروما" والخلل النفسي التالي لها. يسفلتني الكتاب تمامًا وآتي على الساعة الواحدة صباحًا لأطلب الغوث، أي غوث: فيلم حلو، مزيكا، صور جميلة. لا يسعفني الإنترنت، فأبحث في مخزون الكمبيوتر. كلها أفلام معادة. ماذا عن الموسيقى؟ لا موسيقات جديدة، وتطبيق "سحابة الصوت" لا يعمل. وبعدين؟ أشاهد فيلمًا اسمه جميل جدًا: "الحنين إلى الضوء". افتتاحيته مبهرة، يتحدث عن صحراء أتاكاما في تشيلي، التي جوّها بلا نقطة رطوبة واحدة، ليصبح من أنقى الأجواء على الأرض، فبنوا فيه أكبر تلسكوب على الأرض، أيضًا. وعماذا يتحدث أيضًا يا روز؟ عن سجناء الرأي المعارض للديكتاتور بينوتشيه.
ليه؟ ليه يارب ليه؟ يمضي الفيلم في وصف معاناة السيدات، اللاتي حُبس لهنّ زوج أو أخ أو ابن ولم يعد. يقولون إن الصحراء ضمت رُفاتهم، حيث دُفنوا على عجل هناك. يبحثن. وجدن مقابر جماعية بالفعل. لكن الأسوأ لم يأتِ بعد: وجدن أجزاء من رُفات أحبائهنّ. القصة مؤلمة جدًا، لن استطرد فيها، فالألم عمّ الكل، وأصبح أكثر مجانية من هواء نظيف. لكن، على عاتق السيدات دائمًا، تقع مهمة كشف الحقيقة. الستات، المضيئات، والحالمات، والساعيات، حاملات الألم، الحالمات بالنور، المبتسمات، الجميلات.. الجميلات هنّ الجميلات يا عم درويش.
في مركز النديم لمواجهة وعلاج ضحايا التعذيب يقع مكان سيدة عذبة جدًا، د. منى حامد. سيدة شديدة الجمال والتواضع، مهيبة بعلمها وتعاملها السمح. يذهب إليها أغلب أصدقائي، لأنه كان لا بدّ من مخرج وإلا جُننا جميعًا. تصف لهم علاجات سلوكية، ومع بعض منهم أدوية. تأتي الأدوية بنفع فعليًا، ويتقدمون في حياتهم لمربعات ودوائر جديدة. تحنو عليهم. يصلني حنانها عابرًا أجسادهم وأرواحهم فأتدفأ به. أحببتها جدًا واتمنى لو نلتقي يومًا ما. الجميلات هنّ اللطيفات، الملطّفات.
استيقظ من نومي متعبة جدًا. استغرقني الأمر سنوات لأصل لقدرٍ من الصراحة مع القارئ، لأكتب بكل أريحية: "استيقظ أريد تقيؤ روحي". لا يهمني منظري أمام الخلق، المهم أني أتحدث عمّا بداخلي.
أصحو متعبة، فلا أستطيع العمل. لا يفيدني المزيد من النوم لأنه لم يعد نافعًا معي. لا أتوجه للمطبخ رغم علمي أن أخي لم يفطر بعد. رغم كونه أطول مني، فهو لا يتحمس لفعل شيء في المطبخ إلا لو كان هناك أحد به. يحتاج للونس، يبحث عنه. أحسّه وحيدًا. كونه الأصغر في العائلة جعله وحيدًا، نوعًا ما. بسفر أمي وتوجّه بقية إخواتي كلٌ في سعيه الكوني، أصبحت شاشة اللاب توب صديقته الوحيدة تقريبًا. لو لم أتذكره بطعام أو شراب لما تذكر. وبالفعل، أصبح أكثر هزالاً ووجهه أكثر صُفرة.
أقول استيقظ مثقلة، فأتجه لمدوّنة هيفاء القحطاني. مدونة هي من السعودية، صنعت لها عالمًا بذاته. تدوّن من 2008، أيام الصبا، فجاءت تدويناتها جميلة وبها بعض من نزق محبب. تكتب عن أكلات جديدة، تكتب عن إخوتها وكيف يتشاجرون دومًا، تكتب عن التجديدات التي أقامتها في غرفتها فحمستني لدهان غرفتي أنا وأختي بلون جديد. تتحدث عن أمها الحائكة البارعة، صاحبة مركز لتعليم خياطة الألحفة، تأتيها الأمريكيات والأوربيات المقيمات بالسعودية ليتعلمنّ على يديها. أحببت حكاياتها جدًا خصوصًا أن أمي أيضًا تجيد الخياطة وأعمال الإبرة ولديها ماكينة تخيط غرزًا زخرفية. في التدوينات الأكثر حداثة، تكتب عن الوثائقيات التي تشاهدها، وعن موضوعات جديدة تتعلمها. أحب مدونتها جدًا لأنها تأخذني لعالم هادئ، ليس به قتل أو كهرباء مقطوعة أو مشاريع عبارة عن فيلة بيضاء ستذهب بنا جميعًا للجحيم. أحب مدونتها لدرجة أنها تهدئني بعد استيقاظ مثقل وروح مخرّمة. أنا الآن أتابع تدويناتها من الأول، منذ 2008.
لهيفاء أيضًا حساب على الإنستاجرام. في بداية اغترابي بسفر اضطررت إليه رغمًا عني، جئت بأرشيف حسابها كله وأخذت أقرأ التعليقات التي تكتبها إلى جوار الصور. الصور بارعة الحسن. تصوّر فنجان قهوتها، إلى جانبه كتاب وعلبة طلاء أظافر مثلاً، أو طبق به ثمرتي فراولة، وتكتب عبارة بسيطة مثل "كولاج يوم الأحد". أحب هذا العالم جدًا، يجعلني أتخيل أنه بالإمكان عيش حياة غير هذه الحالية. تجعلني أمتنّ، لكوب قهوة أو قنينة طلاء أظافر. تجعلني أهدأ، أكثر قدرة على التخيّل، أكثر امتنانًا. أنا ممتنة للرب جدًا، على نعمة وجود المدونات، وحسابات الإنستاجرام، وهيفاء القحطاني. شكرًا لك يارب.
ينغلق اليوم على محاولة للقراءة في كتاب مؤنس قرأته من قبل ليطمئن قلبي، أو محادثة هاتفية مع صديق عزيز تحمّل معي الكثير وما زال يتحمّل. أقرأ الأذكار وأدعو الله أن يرزقني نومًا هادئًا، فأحصل أو لا أحصل عليه، لكن اليوم ينتهي، وأنام.
__________________
موقع هيفاء الشخصي:
http://www.clippings.ws

حسابها على الإنستاجرام: http://websta.me/n/ihanq

نُشر في نون بتاريخ أغسطس 2014
http://nooun.net/article/1194/

عن كائن النهانيهو المثابر في عيد ميلاده الثلاثين



نهانيهو الحبيب، أو النُهنه، أو نيو نيو، أو باختصار نهى. أختي الحبيبة الجميلة، أكبر منّي بتلات سنين، بس في الدراسة بسنة واحدة لأنها دخلت سنة سادسة وأنا لأ، وعوامل أخرى. ح تتم في 16 أغسطس الحالي 30 سنة بحالها، وبهذه المناسبة المجيدة أهديها هذا المقال، علّه يرسم بسمة، أو يعترف بجميل مش ح اقدر أردّه أبدًا كما تستحق :)
عزيزي النهانيهو: لسه فاكرة لما جيتي من المدرسة بنتيجة أولى ثانوي، وحصلتي فيها على مجموع عالي. كنتي مقررة إنك ح تدخلي علمي علوم. جيتي أعلنتي النتيجة والقرار لبابا وماما. بابا أخد الموضوع باستخفاف وقال لك "ح تدخلي علمي علوم ليه؟" "عشان أطلع مهندسة يا بابا". "من قلة الرجالة ح تدخلي إنتي هندسة؟ لا إنتي تدخلي تدبير منزلي زي عمتك." كإن عماتنا أو الكبار في عيلتنا عملوا كل ما يمكن عمله في الدنيا ومفاضلناش غير إننا نتبع خطاهم ونبقى نُسخ وقوالب منهم. عمتي كويسة في مجالها، لكن ليه أنا اطلع نسخة منها؟ فين "نهى" أو "رزان" وشخصيتها وح تسيب ايه في الكون من علامات؟
أصرّيتي وعيطتي وزاد الاستسخاف والسخرية. دخلتي فعلاً علمي علوم. لسه فاكرة تفوقك في الفيزيا والراديو اللي عملتيه من بواقي عربيات بريموت كنترول مكسّرة ولوح أبلاكاش من النجار اللي جنب عيادة ماما. كنتي فرحانة بيه جدًا وأنا مستغرباه جدًا برضه، وجاب محطة وسمعناه كلنا سوا! كنتي ح تشتركي في المعرض العلمي للمنطقة بس المدرّسة تعبت ومرحتيش بناءً على كده. أنا فاكرة كويس أوي مدرّس الرياضيات اللي كان بيديكي، ودرّس لأخونا الكبير قبل كده، وإزاي كان فخور بيكي. أستاذ محمد حافظ، لسه على علاقة طيبة بالأسرة رغم إننا مبنشوفوش تقريبًا. فاكرة كمان الأستاذ العجوز في المدرسة، بتاع الرياضيات برضه، وكان مرح جدًا وعلى خلق حسن، وكان بيشجعك وبيحب يجيب لك المسائل الصعبة من الكتاب، الخزعبلية اللي متتحلش، ويتحداكي بيها. كنتي – ومازلتي – أفضل نسخة من نفسك، ومتفوقة أوي، ما شاء الله.
إنتي اللي فتحتي لي سكك حاجات كتير، كوني الأخت الأصغر والأضعف والأقل قدرة على المجادلة ومحبّة تكبير الدماغ والاستسلام والاستكانة. أنا فاكرة في إعدادي، كان فيه رحلة لجيرولاند تقريبًا أو دريم بارك، مش متذكرة بدقة، بس كان فيها مراجيح وزحاليق ولازم لها لبس رياضي أو كاجوال ومريح. "ماما عايزة أروح" " ح تلبسي ايه؟" "البلوزة و..و..البنطلون" "معندناش بنات تلبس بنطلون". أنا فاكرة عياطك في التليفون لبابا اللي كان مسافر ساعتها وإنتي بتتحايلي عليه يرضى يطلعك وهو شرطه إنك تلبسي جيبة. "بس رجليا ح تبان يا بابا لما أركب القطر اللي بيتشقلب ويلّف." "البسي تحتيها بنطلون طويل." وفضل الجدل كده. مطلعتيش الرحلة دي، بس طلعتي اللي وراها، ولبستي اللي إنتي عايزاه، ولحد دلوأتي، الجدل مستمر حوالين حاجات كتير، بس بنقدر أنا وإنتي في أغلب الوقت نعمل اللي إحنا عايزينه.
سكة السفر. إنتي فتحتي لي سكة السفر. بعد انتهاء كليتي على طول وشغلي في دار نشر عملاقة بتمص دم الموظفين فيها مصّ، قررت إني أسافر آخد الماجستير في مجال تاني بحبه أكتر من الترجمة. "ماما عايزة أسافر." "لأ معندناش بنات تسافر لوحدها، استني لما تتجوزي." وسكتّ، معافرتش. إنتي جالك فرصة في مؤتمر كبير، محدش من الدول العربية باعت أي حد بينما دولة الاحتلال الصهيوني باعتة ناس يتكلموا في نفس الموضوع اللي ح تتكلمي فيه. "إزاي نسيبهم يا ماما يعملوا كده؟" "خلاص أسافر معاكي." ماما فضلت متمسكة بقرار السفر معاكي وإنتي متمسكة إنك لازم تسافري، فكانت النتيجة سفركم سوا. اتكلمتي في المؤتمر، واديتيهم بحث مصغر ينشروه في دوريتهم، ومجلات اقتصادية عالمية اتكلمت عن بحثك ومشاركتك. حقيقي أنا فخورة بيكي جدًا، جدًا، حتى لو معبرتش عن كده في أحيان كتير.
بعد كده، سعيتي بدأب وجهد إنك تشتركي في برنامج تعليمي لرائدات الأعمال العربيات، بيتعمل في سان فرانسيسكو، وح تزوروا وادي السيليكون وشركات عملاقة زي جوجل وفيس بوك وح تاخدوا هناك دورات تدريبية. المرة دي ماما وافقت إنك تسافري لوحدك. عرفت أنا إن الطريق مفتوح لي أنا كمان إني أسافر، ودوّرت. لسه ملقيتش، بس ربنا كبير، أكيد في فترة ح ألاقي، إن شاء الله. نهى دلوأتي ما شاء الله مديرة مشروع ريادي بيوفر "حضّانات" لأصحاب الأعمال الناشئة، بيديهم مستشارين بيشرحوا للشباب إزاي يقيموا عمل ناجح ومتكامل، وبيوفرّ لهم المساعدة والإرشاد. فخري بيكي حقيقي بيتزايد :).
في فترة من الفترات، أصاب عقلي صمت رهيب. كان مفيش حد في البيت إلا أنا وإنتي، إحنا الاتنين مبنشتغلش لأننا مش لاقيين حد يقدر عقلينا وقدراتنا تقدير صح ويعاملنا معاملة احترافية محترمة. أصيب عقلي بالخواء وكان فيه خرمة كبيرة أوي في روحي، بتشفط كل حاجة، تبلع كل حاجة، لدرجة إنها مخليتش مكان إلا للخوف. ساعديتني. كنتي بتشغلي لي على اللاب توب بتاعك فيلم "الباب المفتوح" بعد ما قعدت أقراها تلات أيام ورا بعض مبعملش فيهم حاجة إلا الشعلقة رجليا فوق وراسي تحت على السرير وفاتحة الرواية. شغلتي لي الفيلم تلات مرات ورا بعض، وعملتي لي أكل، وقعدتي تكلميني كتير جدًا. حاولتي تفرفشيني، جبتي أصحابي، كلمتيني، وأنا مكنتش بعمل حاجة إلا العياط المستمر، مكنتش باتكلم حتى. بفضل من ربنا ومساعدة الأدوية ووجودك في حياتي، أنقذتيني من أسوأ فترة مرت عليا عمري كله. عمري ما ح أنسى رضاكي إني ألزق لك في المكتب والسرير من غير ما أقول حاجة أو أعمل حاجة. متونسة. بس كده. الونس، يا عزيزتي، أحيانًا يكون كل ما يتطلبه الأمر، ليمرّ يومٌ ثقيل آخر، دون خسائر في الأرواح والممتلكات.
عزيزتي النُهنُه: التلاتين كويسة. دي مش سن كبيرة، زي ما الإعلام والقرايب بيصوروا لنا. أبدًا، دي بداية الحكمة والاتزان وحاجات تانية حلوة كتير. افتكري إن مارثا ستيوارت ما بدأتش برنامجها غير في الأربعين، وميريل ستريب عندها دلوأتي ييجي 65 سنة ولسه بتقدم أبدع أدوارها. السن مش شرط لنجاح أو فشل، إحنا اللي بنصنع ده. عقلك وقراراتك ووجهة نظرك للأمور، هي اللي بتقرر نجاحنا أو فشلنا. بصي للموضوع من وجهة نظر "الشباب الدائم للألوان" زي ما بتقول رحاب بسّام: عمرك شفتي لون بيعجّز ويكبر في السن؟ خليكي لون، فليكن التركواز مثلاً أو الفوشيا الفاتح. سيبي علامات من اللون ده على كل حاجة بتعمليها، وابتهجي وأبهجي، انبسطي وحبي واتحبي واملي الأرض نور. اسعي للدراسة والعمل ونشر المعرفة، اكتبي كتير، وما تبطليش تكلمي ربنا. والأهم، خليكي حلوة زي ما إنتي، مفيش حد ولا حاجة تكسرك. صدّقي نفسك تتصدقي. :)

كل سنة وإنتي منورة قلوبنا وحياتنا بدأبك ومثابرتك المستمرة، آمين. :*
___________________
نُشر في 15 أغسطس 2014
http://nooun.net/article/1177/

حافظ على عقلك وقلبك: 3- مامبو


في المقالين السابقين تحدثنا عن بعض التقنيات الممكن اتباعها كي نخفف من مقدار الألم الناتج عن مشكلة أو أزمة حدثت بسبب الأوضاع الحالية في حياتنا وما يمسها من قرارات. في هذا المقال سنختتم الغطس ونطفو، أي "مامبو"، لعلّ هذه الأمور كلها التي ناقشناها تنتج عن شيء إيجابي، ولو لشخص واحد فقط.
...
"لاحظت عبر حياتي أن من يشبهون الملائكة ليسوا مخلوقات نورانية غير ملموسة، بل إنهم أكثر واقعية وحقيقية من ذلك. إنهم أناس ذاقوا الأسى وشعروا بالألم، وبطريقة ما، فإن ذلك جعلهم قادرين على أن يصيروا ملائكة. ففي أحلك لحظاتهم أصبحوا أقوياء."
سَبَج رقاقة الثلج، ذا هيبي
(السَبَج: الزجاج البركاني)
...
مفاهيم جديدة للطفو:
1-    الاستسلام:
هو أن تقرر التوقف عن محاربة نفسك ومشاعرك، وأن تقتنع – بدلاً عن ذلك – بأن كل شيء حاصل الآن سيمرّ وينقضي. وفي ذلك الوقت، فإن أفضل شيء تفعله وضع خطة لتمضية ذلك الوقت ومحاربة الألم، وليس نفسك، بعقل متفتح ومتقبل للرحلة بكل تقلباتها، ونظرة إيجابية، حتى لو لم يكن في الموضوع من إيجابيات.
كيف؟
1-    الثقة: ثِق بأن كل شيء له هدف ومعنى. دع التجربة تعلمك شيئًا ما. تذكر أن التعلّم بالألم يحفر في داخل الروح والعقل أكثر من مجرد "السماع" عن تجربة شخص آخر. كما أنه يزيد من قدرتك على المسامحة وتفهم البشر. ثِق بإرادة الله وأعطه مفاتيح روحك لتركن إلى جانبه، بإيمان أن كل شيء على ما يرام، والأفضل – ربما – لم يأتِ بعد.
2-    التقبل: إن تقبل ما يحدث الآن في حياتك يساعدك على تجنب الألم المصاحب لعدم الفهم. ولا يعني هذا أن موقفك الحالي من الأزمة أو الوجع لن يتغير للأحسن، بل على العكس. يمكنك التفكير في أفعال إيجابية تتخذها لتهوين الأمور عليك. تذكر أن عليك التوقف عن محاربة نفسك أو التسخيف من مشاعرك وأفكارك.
3-    اسمح للأشياء بأن تعبر من خلالك وتمضي لحال سبيلها دون أن تحارب أفكارك تجاهها. تذكر حينما تأتي العاصفة، افتح لها البابين الأمامي والخلفي للمنزل، كي يعبر البرق من خلالهما ولا يتوقف لديك ليصيبك في مقتل. لا تقاوم الألم، اسمح له بالمرور وتجاوزك، لأن مقاومته ستترك علامة بداخلك، ويؤلمك أكثر. كل شيء سيمضي. هذا أيضًا سيمرّ.
2 – اصنع أشياء إبداعية: ارسم واكتب وارقص وغنّ واعزف، يمكن لألمك أن يتحوّل لشيء جميل في النهاية. مصطفى إبراهيم شعر بالألم من أحداث نهاية 2011 اللا عقلانية فكتب قصائد، موجعة نعم، لكنها معبّرة جدًا. ربما يموت مصطفى ولا يتذكره أحد، لكن قصائده ستبقى. الهدف ليس تجميل ما تشعر به، بل على العكس، إخراجه كما هو. تحتاج لذلك، تمامًا كحاجة الآخرين له، لأنهم ربما لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم. أكتب لكَ ولهم، كما فعل مصطفى إبراهيم.
3 – اخلق مساحة بينك وبين مصادر الاستنزاف الشعوري، حتى لو كانوا مقرّبين منك – عائلتك مثلاً. اخلق وقتًا للانفراد بنفسك والتحدث إليها. كلّم نفسك كتير. كلّم ربنا كتير.
4 – من حقك وحق الناس أن يحزنوا. تذكر ذلك. دعهم يشعرون بالحزن للفقد أو العجز عن اتخاذ أفعال أكثر تأثيرًا. لا شيء يعيب في هذا. لا تحاول "إضحاكهم" أو إخراجهم من حالة الحزن، لا تصادر حقهم في المشاعر السلبية. اســـــمــــعــــهــــم يتحدثون عن ألمهم.
“I really do believe there is a heaven somewhere up above my head” Sister Rose.
5 – لو كان من تهتم لأمره يشعر بحزن عميق، ظلّ بجانبه. اسمح له بإظهار مشاعره والتعبير عنها، وتوقف عن قول ملاحظات مثل "إنت مش ح تتجاوز المرحلة دي بقا؟"!!
تصالح مع فكرة رؤية الألم في عينيه، وتقبله كما هو، لأنك بذلك تمنحه هبة الشفاء. ضع تركيزك في التعاطف معه والبقاء إلى جواره.
إن إظهار شخصيتك دون رتوش له يسمح بالتبعية له بأن يظهر مشاعرك ويصبح على طبيعته معك. من الأفضل التعبير عن الألم بدلاً من كتمانه ليظهر أمامك "على ما يرام" أو " لا شيء يفتّ في الحديد".
إن الحقيقة القاسية أنك لن تعود نفس الشخص ثانية، بل ستتحول لنسخة "ممتدة" منك، تشمل ذاتك القديمة إضافة لذات جديدة تعرفت على الألم والفقد والحزن وتقبلتهم، وتعلمت التعبير عنها. كما أصبحت لديها القدرة على معرفة النعمة والدرس المصاحبين لتلك التجربة، وبالتالي تعلّمت تقدير الحياة ذاتها بكل حقيقة تمر بها.
6 – احصل على المعلومات بشأن حالتك. معرفة بأن ما تمر به له اسم ووصف وطريقة علاج، أمر يساعد كثيرًا جدًا على تجاوزه. اسأل جوجل أغلب الوقت واشترِ كتبًا لكي تعرف بأن ما أنت فيه "طبيعي" وليس خطأ.
7- اسمح لنفسك بالحزن، ابكِ، لا تصبح قاسيًا على ذاتك، وسامحها على ضعفها. اسمح للآخرين بالتعاطف معك، احضنهم ودعهم يحضنوك. اجلسوا حول طاولات الشاي وتحدثوا في ألمك/ألمكم ولا تهزأوا به.
8 – إن الحزن عملية علية للتواكب مع المعطيات الجديدة وفهمها، حيث إن عقلك يكمل بداخله الصورة القديمة عن الحياة كما هي – قبل مقتل صديقك مثلاً – فوقت حدوث الأزمة يتوقف عن الاستيعاب، لذلك لا بد له من وقت كي يفهم ويستوعب، ويخلق مسارات عصبية جديدة تحمل المعطيات التي تغيّرت.


نقاط متفرقة:
لو لم تشعر بأزمة حاليًا، لكنك شهدت من قبل مشاهد أو حضرت مواقف صعبة، من قتل مثلاً أو هرب أو تعذيب أو اعتقال، أو ظلال من طفولة سيئة، حاول إصلاحها قبل أن تتغلغل مسببة أزمات أكبر، حيث إن إصلاح السقف المكسور في يوم مشمس أفضل من انتظار المطر لينهمر فوق رؤوسنا.
عندما تصبح مستعدًا لذلك، ابحث عن الدرس. فالمصائب والمحن تأتي بدرس معين أو حكمة، وفرصة جيدة للنمو الشخصي لا يحصل عليها من انزوى في ركنه وفضّل عدم المشاركة نهائيًا. كما أنها تعمّق من فهمنا لأنفسنا وللآخرين، وتعزز من مشاعر التفهم والتعاطف مع الآخرين وتعلّم ترك مساحة شخصية لهم، وهذه أشياء لا تأتي بالقراءة، بل بالدعك في مصائب الحياة المختلفة.
وإلى من يرون أن كلامي كله "بلح" لا فائدة له معهم أو في حالتهم تلك، أقول لهم أنتم ربما في أقصى منحنيات الألم والثِقل لديكم. امنحوا أنفسكم وقتًا وفرصة للتعافي وستصبحون أفضل، وحينها يمكن لكلامي أن يؤثر ولو حبة صغيرين. اسعوا للحصول على مساعدة طبية نفسية. هناك درجة معينة من الغرق لا تصلح معها محاولات الإنعاش إلا لو أنقذت نفسك أولاً. ساعدها، ثم تعالَ لترى إن ظلت مقالاتي نوعًا من الفاكهة أم لا :)

 ___________________________
نُشر في نون بتاريخ يوليو 2014
http://nooun.net/article/1146/

حافظ على عقلك وقلبك: 2- تيكو



غطسنا في المقال السابق عميقًا تحت مصادر القلق والضغط النفسي والعصبي، وبحثنا في عدة طرق يمكننا أن نواجه بها تلك المصادر. نستكمل في هذا المقال غطستنا، "تيكو"، كي نحافظ على قلوبنا وعقولنا من أن يصيبها عطب أو أن نفقدها نهائيًا.
...
7- قلّل الوقت الذي تقضيه مع الأشخاص الخطأ:
هؤلاء الأشخاص الذين يمتصون قوّتك، يستنزفون طاقتك في محاولة الشرح والتبرير لتصرفاتك ومعتقداتك، ما داموا لا يرون ما تراه فلا جدوى من المناقشة، خاصة مع توافر عناصر مثل غياب الرؤية الكاملة الذي يؤدي للجهل والتعصب والعنجهية.
الأشخاص الذين لا يقدمون لك دعمًا أو مساندة أو ليس لهم مكانة كبيرة في قلبك. ثق في اختيار قلبك بالمناسبة لأنه في أغلب الوقت يقول الحقيقة.
من صفاتهم: لا يستمعون إليك، وينتقدونك دائمًا ويطلقون الأحكام عليك دون السماع لدفاعاتك أو يضطرونك للدفاع عن نفسك طوال الوقت، ويطلبون منك أشياء وأفعال قد تبدو عادية لكنها فوق طاقتك على التنفيذ. من نتائج التفاعل معهم شعورك بالاستنزاف والإجهاد بعد مقابلتهم كأنهم يمتصون طاقتك، بعبارة أخرى، يزيدون من شعورك بالسوء والفشل حيال نفسك. كفاية على فكرة!!
8- احصر نفسك في الحاضر:
حاول قدر الإمكان الابتعاد عن التركيز في الماضي، بمعنى تجنب الذكريات المرتدة "فلاش باك" والسيناريوهات المعادة. حاول ألا تقلق أيضًا بشأن المستقبل وما سيحدث به وبناء تصورات على المعطيات الحالية، لأن في كل أو معظم الحالات ستتخذ تلك التصورات أشكالاً كئيبة وسوداوية تخنق تنفسك أكثر.
مارس التأمل: اجلس في مكان هادئ، في العمل أو المنزل أو الكلية، أغمض عينيك وخذ أنفاسًا عميقة من بطنك وليس من صدرك، وركّز انتباهك كله في عبارة واحدة، مثل "الحمد لله أني حيّ وبصحة جيدة". ركّز فيها جدًا وكررها على نفسك كي تطرد الأفكار والذكريات والتصورات المستقبلية. يمكنك أيضًا ممارسة اليوجا وتدريبات التنفس العميق كي تظل في الحاضر. حاول ولا تيأس.
بالمناسبة هذه التمرينات قد تبدو صعبة جدًا في البداية لكن مع تكرارها تقل صعوبتها ويزيد تعودك عليها.
9- ضع نهاية للأزمة:
إذا سمحت للمشكلة بأن "تحدد" شخصيتك، وأصبحت كل طاقتك مركزة نحوها، حتى استنزفتك واقتربت من التهاوي، وكل تركيزك منصبّ على كيفية الخروج من الأزمة... كفاية!
يعني أنا مثلاً، أشعر في أحيان كثيرة بأني لو لم أعاني مثلما يعاني الآخرون الأعزاء الذين تملأ صورهم وأخبارهم صفحتي الرئيسية على الفيس بوك، أشعر بأني خائنة. لا بد من تمركزي في موقع انعدام الحيلة وخفوت الرجاء والسخط الدائم، مثل الباقين، وإلا خرجت عن الجمع ونلت استهجانهم بدلاً من استحسانهم. لكن الحقيقة أن العكس هو الصحيح.
نقطة أخرى: يقول د. عمرو صلاح، ماجستير في الطب النفسي وعلاج الصدمات، أن جزءًا كبيرًا من العلاج يقع على عاتق انتهاء سبب الصدمة "تروما"، أي الثورة. يجب أن تتحقق أهدافها لنشعر بأن تضحياتنا ذات قيمة، وبأن من سبقونا من الرفاق لم يذهبوا هدرًا. فلو تحقق ولو جزء بسيط من أحلامنا سنصبح سعداء يحفّنا الشفاء بهالته الوردية الفاتحة. لكن الحقيقة أن طالما الأزمة مستمرة فإن ألمنا سيمتد. المهرب الوحيد في المتع الصغيرة: طفل يضحك وهو قادم نحونا، كنافة بالكريمة مصنوعة جيدًا وطعم السمن غير ظاهر فيها، نجاح في كلية أو جامعة، شريك حياة لطيف لا يؤنّب ويغسل الصحون جيدًا قبل النوم، وهكذا.
10 – راقب المشهد من الخارج:
استرخِ قليلاً، ارجع بظهرك للوراء، حاول النظر للأزمة من منظور مختلف عن "الضحية" أو الذي وقعت عليه الظروف. حلّل الأسباب والعلاج مع زميل أو قريب، تنفس عميقًا وحاول الاستماع لصوتك الداخلي. غالبًا ستخرج بحلّ أو اثنين لم تفكر فيهما وأنت في خضمّ الأحداث.
11- اعمل أي حاجة!
يقولون اصنع قائمة بالأشياء التي تدور في ذهنك أو اتصل بمراكز مساعدة أو اجمع المعلومات لأن تجاهل الأزمة يزيد من مدى التوتر والقلق الذين تشعر بهما. عن نفسي، فأنا أبحث على الإنترنت أكثر وأحاول القراءة أكثر، في كتب أو مواقع أو دوريات أو اسأل الأطباء الذين تتاح خدماتهم على الإنترنت أو في الواقع. بعدها أشارك ما عرفته مع صديق مقرّب وأحاول تطبيقه.
إن محاولة "الفِعل" تنفي عنك القهر الحاصل من العجز عن فِعل "شيء حقيقي"، كأن تُخرج صديقًا من المعتقل. "الفِعل" هنا سيعطيك إحساسًا بأن هناك شيء يدور حولك/بواسطتك، وأنك لا تقف مكتوف اليدين.
12- تذكّر أنك لست "وقتك الصعب":
أي أنك لست نتاج أو محصلة مشكلاتك وأزمتك وأوقاتك الصعبة. ذاتك الحقيقية تقبع وراء كل ذلك، وهي متماسكة وكويسة رغم كل ما تمر به، تنتظر فقط أن تلتفت إليها. شكرًا
13- ضع في ذهنك أن ليس كل الناس يُشفون بنفس الطريقة وفي نفس التوقيت:
لا تقل فلانًا أصبح أفضل في وقت أقصر مني بينما أنا ما زلت عاجزًا عن النوم / المواجهة / العمل (أيًا كانت نتيجة الأزمة). لا يوجد من يمسك لنا بمطرقة فوق رؤوسنا ينتظرنا أن نُشفى وإلا ضُربنا! قد تكون الأوقات الصعبة ساحقة بثقلها عليك، حاول البحث عن مساعدة محترفة.
14- الامتنان:
اشكر ربنا على أي شيء ولو كان بسيطًا جدًا، كتنفسّك جيدًا أو توفر لقمة في حقيبتك تأكلها حين تجوع. نعم، هناك أشياء كثيرة ناقصة في الصورة، لكن ابحث عن الألوان، ستجدها، فالصورة ليست رمادية كلها. وتذكر: امتنّ للوحش والحلو.
15- اهرب:
حوّل انتباهك عن المشكلة. اذهب للسينما، اقرأ كتابًا مسليّا أو قصص للناشئة. اضحك على أي شيء. اسمع الأغاني القديمة، دع عقلك يتوقف عن التفكير، ولو لبرهة.
16 – فكر في الأشياء الضرورية والأولويات:
أجب عن أسئلة مثل "ما الهدف من حياتي؟" أو "ما الخطوات التي يمكنني اتباعها كي استفيد من كل دقيقة من وقتي بدلا من التحديق في تحديثات الأخبار والحالات؟". إن التحديات الكبرى والأوقات الصعبة تعطينا فرصة جيدة لإعادة تقييم كل شيء في حياتنا وتصويبه لو استطعنا. صحيح أن الأمر يستغرق وقتًا للشفاء لكن الإجابة ستصبح أكثر حلاوة مع الوقت.
“You gotta be bad, you gotta be bold, you gotta be wise
You gotta be hard, you gotta be tough, you gotta be stronger
You gotta be cool, you gotta be calm, you gotta stay together
All I know, all I know, love will save the day.”
You Gotta Be, Des’ree

...
_______________________
نُشر في نون بتاريخ يوليو 2014
http://nooun.net/article/1143/

حافظ على عقلك وقلبك: 1- هوبّا


هذا المقال مُهدى إليّ. شكرًا
في مكالمة سريعة لصديقي كريم الخارج حديثًا جدًا من المعتقل، سألته للمرة الثامنة في أسبوعين لو استطعنا أن نتقابل. زفر وقال بنبرة عصبية: "أنا مبقيتش عارف أجري على أصحابي اللي دخلوا المعتقل بعدي وللا اللي مات امبارح ولا الأحياء اللي عايزين يشوفوني ولا أهلي اللي في البيت وزعلانين مني لأني مبشفهمش."
صمتّ. طبعًا، لا بدّ أن أفعل. فهي ظروف ضاغطة وقاهرة. اقترح كريم بعدها أن نتقابل في معرض رسومات صديقه المتوفي غرقًا، هشام رزق، فوافقت، وأخيرًا رأيته بعد أسبوعين ونصف من خروجه من المعتقل.
لا أريد لكريم أن يفقد هدوءه أو يخسر قلبه. هاتفته: "حافظ على قلبك" فأجاب "باجاهد لده". لم يبدُ مبررًا لكلام أبعد من ذلك، فصمتنا جدًا، جدًا يعني.
إذن، هذا المقال مُهدى، أيضًا، لكريم.
....
نعيش ظروفًا ضاغطة تفقدنا إنسانيتنا. نحن في أوقات صعبة، والأسوأ لم يأتِ بعد. لكن أيضًا الأفضل لم يأتِ بعد. هذا جزء من إيماننا بالقدرات البشرية، ما دام هناك من يتفاعل ويتحرك "على الأرض" ليحارب الرماديّ ويمسك بفرشاة ألوان ويقاتل. وهو جزء من إيماننا بالله، حيث الثقة في مقادير فضلى رُسمت لنا. لكننا عاديون، لم ننزل من سماء الأوليمب أو يربّنا آباؤنا على الفنون القتالية في سن الثالثة والحديث بالإنجليزية والعبرية في الرابعة. في أوقات كثيرة نشعر بالغرق، تغمرنا الأحداث ومشاعرنا حيالها، ولا نستطيع التنفس. في سلسلة المقالات هذه سنتحدث عن أخذ أنفاس عميقة، والغطس، والطفو، بتقنية "هوبّا تيكو مامبو".
(1 – هوبّا)
1-    اعرف مشاعرك:
اعرف ما تفكر فيه وتشعر به. هل هو الغضب؟ الخوف؟ امنحه اسمًا، ارتكن إليه، ودعه يخرج للسطح. لا تكبت مشاعرك لأنها لن تختفي، بل ستتعاظم بداخلك حتى تغمرك تمامًا وتسقطك أرضًا وقتما لا تتوقع. لا تحاول الهرب! لا سبيل إلا المواجهة!
من ناحية أخرى، فأثناء تجنب مشاعرك يعمل عقلك دون إرادتك على إعادة إنتاج وتحليل الأحداث المؤلمة والتي أدّت لخلق تلك المشاعر السلبية، هذا في الوقت الذي يتحتّم عليك أن تترك نفسك "لتشعر" بالألم والحزن والفقد والوجع والغضب المصاحبين لما حدث، بالفعل.
هناك طبيبة، تُدعى كريستينا ج. هيبرت، عانت من الفقد المتواصل لأخواتها طوال عمرها، أنشأت طريقة تُدعى: TEARS: Talking "الكلام عمّا وقع بالفعل"، وExercising "ممارسة الرياضة"، وArtistic Expression "التعبير الفني/استخدام الفنون المختلفة في التعبير"، وSobbing "النشيج (= البكاء بشهيق ونهنهة)".
وتقول كريستينا إن هذه الأشياء الخمسة تفتح لنا سككًا لأفعال يمكننا القيام بها حين تغمرنا ضغوط الحياة ولا نستطيع التنفس. وتؤكد على ضرورة ألا "تعقلن" مشاعرك، أو تحجمها، بل تقبلها كما هي لأنها "جزء من رحلتك على الأرض".
2-    تكلّم، تحدث، قُل، انطق، ضع في صورة كلمات:
عندما تكتم الحديث عن المواقف الصعبة فإنها ستكبر وتنمو بداخلك، وتتحول لمخاوف ومصادر للتوتر وسينهشك القلق وحدك ملتهمًا إياك في صورة وحش خرافي انبسط أخيرًا بالعثور على ضحية. هذا بينما الحديث عن مشكلاتك في التعامل مع تلك المواقف يساعدك على التفكير في حلول لها وفهمها فهمًا أفضل، ويمكن أن يقول المستمع إليك شيئًا من نصيحة أو طريقة لمواجهتها، سواء من خلال ما قرأه أو ما واجهه.
3-    طوّر مهاراتك الميتافيزيقية:
حاول أن ترى "ما بعد" تلك الأشياء: المواقف الصعبة والمشكلات والأوقات الضاغطة. ما وراءها؟ هناك حكمة ما، ربما لن تستطيع الوصول إليها الآن، لكن فكرة "الحكمة" في حد ذاتها مريحة، كأن تفقد وظيفة ما فتحصل على أفضل منها أو تهاجر لدولة أفضل، وهكذا.
4-    لبدنك عليكَ حقًا:
دائمًا: "كُل كويس ونام كويس". الأكل المغذي "خضروات ورقية مثلاً، جرجير بالليمون، كفتة بالطحينة، خضروات مطبوخة بالصلصلة البيضاء أو الطماطم" يساعد جسدك على الوقوف لتحمل الصدمات، بينما النوم الجيد يساعد عقلك على فصل الأشياء والأحداث حتى المتلاحق منها، ويضع نهاية معقولة ليوم طويل من الضغوط والنكسات المتوالية. النوم غير المتقطع – يمكنك الاستعانة بمنوّم، لا ضير – يجعلك أصفى ذهنًا من اليوم السابق، وبالتالي تأخذ قرارات إن لم تكن أفضل فهي "أفضل" ما استطعت القيام به.
استحمّ. اغسل شعرك وتعطّر بأي عطر ولو كان بسيطًا، ضع مزيلا للعرق وارتدِ ملابس نظيفة ومكوية، مشّط شعرك جيدًا واغسل أسنانك كل يوم مرتين، واجلس في منزلك مرتبًا أو اخرج لمقابلة أناس لطيفين.
5-    التقبل:
هناك دعاء في الإنجيل يقول فيما معناه: "اللهم أعطني القدرة على تغيير ما يمكنني تغييره، والرضا لتقبل ما لا يمكنني تغييره، والحكمة للتفريق بين الاثنين."
هذا ليس معناه طبعًا أن تتوقف عن السعي لمناطحة دولة من ذات الرأسقدميات حيث لوامسها في كل مكان، لكن هناك ما لا يمكنك تغييره مثل الموت، وإن كنا نحاول "منع حدوثه" أو أن يحدث "بآدمية" ولو حبة صغيرين.
6-    اطلب المساعدة:
حتى هرقل حظي بمساعدة بيجاسوس، حصانه الطائر المكوّن من دموع وسحاب. لا تظن في نفسك أنك تستطيع القيام بكل شيء، في كل وقت، والانتهاء في ميعاده المحدد. اطلب المساعدة.
حتى في هذا الأمر، يجب أن تكون محددًا، كأن تقول للمقربين لك من الأصدقاء والعائلة: "أحتاج لأن تكونوا بجواري، اطمئنوا عليّ دائمًا، اتصلوا بي أو اتركوا لي رسائل على الهاتف أو المدوّنة. أريد ربتات أكفّ طيبة لا نهائية على كتفيّ، ولا بأس بكثير من الأحضان الزرقاء التي تشدد الضمّ." كما يجب أن توضح ما لا تريده: "مش عايز اللي يقول لي ح تفكّ امتى والعلاج ده طوّل أوي وقوم فرفش كده وهي ح تتحلّ!"
تذكّر أن طلب المساعدة لا يصبّ في مصلحتك فقط، بل يجعل الآخرين الذين يهتمون لأمرك ويحبونك يعرفون ما يمكنهم فعله لتصبح في حال أفضل. تذكر أن هذا يعزز العلاقات بينكم لأنها في وقت الأزمات تضعف، بطبيعة الحال.
لم ينتهِ المقال بعد، لأني قد قسّمته لعدة أقسام لمنع الملل. شيء آخر أودّ التنويه إليه: لم أكتب للأمهات العاملات أو غير العاملات، أعلم أنهن منسحقات تحت ضغط الأولاد والمواصلات والعمل، ويحتجن لكلمة طيبة تُقال لهنّ أو نصيحة. لكني لست في موضع اتحدث منه "بخبرة"، لذلك فضّلت الحديث عن شيء أعاني منه وأحاول البحث عن إجابة له. اقرأوا بقية المقال. شكرًا :)

__________________________
نُشر في نون بتاريخ يوليو 2014
http://nooun.net/article/1125/

رمضان الرجاء الخالص والذكرى

لا أذكر رمضان التسعينيات، حيث كنت صغيرة وكنا في السعودية، لا أقارب أو أصدقاء ولا برامج تلفزيونية أو فوازير، فقط كان هناك "بابا فرحان" وهو مسلسل عرائس بحجم الأشخاص البالغين وبعض الحيوانات أذكر منها بقرة طبخت مرة فطيرًا فاحترق منها، فجلست تضع يدها على خدها وتقول "يا فضيحتك يا أمو الخير بين البقر!!"
لكن رمضان أول عقد من الألفية كان مميزًا. أذكر بالتحديد رمضان واحدًا، كانت جدتي ما زالت معنا وبقدرتها على التركيز والتذكر. منعتها الطبيبة من الصيام فجلست متألمة ترفض طعام الغداء أو الإفطار الصباحي، وكان لزامًا على أمي وخالتي محايلتها كي تأكل وتشرب المياه. كانت المياه أساسًا أصل المشكلة، حيث تسببت قلّتها في حدوث جلطة بالنصف الأيسر من الدماغ أثرت على أشياء كثيرة جدًا.
كنا نشاهد التلفزيون، أنا وجدتي، بينما أمي "تكركب" في المطبخ وتصنع طعامًا مخصوصًا لجدتي وآخر لنا، وطبقًا ثالثًا ترسله لخالتي التي تقطن في الدور الذي يلينا مباشرة. أصبحت مهمة ملاحظة تيتة من نصيبي متى عدت من الكلية، حيث كانت في الصباح من نصيب أمي. أجلس بجوارها وأرفع صوت التلفزيون كي تسمع جيدًا – لم ينفع هذا الإجراء لأن سمعها كان ضعيفًا جدًا ورفضت ارتداء السماعات التي وصفها لها الطبيب وتتعلل دائمًا بأن بطارياتها خلصانة – وأتابع معها مسلسلاً أو اثنين. أذكر جيدًا مسلسل "حدائق الشيطان" بتتره المميز بصوت علي الحجار. الحجار أصلاً له قصة معي. في المسلسل أدّى جمال سليمان السوري أول أدواره باللهجة الصعيدية المصرية، وكان متقنًا جدًا. جلست لأتابعه كله كي التقط له هفوة واحدة فلم أجد، فتحسّرت قليلاً لأني راهنت نفسي على زلـله. في تلك التمثيلية أيضًا أدّى رياض الخولي دورًا على غير المعتاد منه، ضعيفًا ومستكينًا، بل في أحد المشاهد ضُرب بقسوة من رجال جمال سليمان. أعجبتني المشاهد ككل وإن لم اتذكر منه شيئًا الآن، لأن ذاكرتي أصبحت "تدلدق" كل شيء تقريبًا.
نعود لعلي الحجار. أصلاً اكتشفته وأنا بالكلية. لم أسمع منه شيئًا وأنا صغيرة لأن "الأغاني حرام" وبالتالي شراء الشرائط حرام واقتناء كاسيت أصلاً حرام. كان كل شيء بالنسبة لي جديدًا، بمجرد اقتناء كمبيوتر منزلي – للبيت كله، أينعم – وابتعاد أبوي عن المنزل بضع ساعات زيادة كل يوم تكفل لي حرية وخصوصية لا يعرفها إلا من كانت حياته "على المشاع" حتى بين الأقارب وأصدقاء العائلة غير الودودين. اكتشفت علي وفيروز ومحمد منير، لكن علي وحده ظل رفيق أول "قصيدة في جواب مكرمش" وأول عينين بنيتين صغيرتين وراء نظارة بدون إطار، لم تقولا شيئًا لكن ظلّتا تلاحقاني، ولما تحدثت في النهاية مع صاحبهما قال "اتأخرتي يعني؟"
ظل علي يغني لي "عارفة" حتى بعد انتهاء كل شيء وزيارتي الخاطفة للساقية ودموعي التي كادت أن تخرج بشهقات عميقة مخنوقة وتفضح المكان كله. لم أعد لزيارتها بعد ذلك، ولا رأيت عليًا. أذكر أول انبهاري بـ "شجرة فلفل تتجوز من شجرة توت" واعتبرتها الحكمة الخالصة وأن بالتأكيد وراء الكلمات معنى ما، رغم أنها الآن قد تبدو كلامًا فارغًا. هل تغادرنا السحرية عندما نكبر أم أن حكايات من صعدوا للسماء وتركونا نشّفت القلب بدري؟
في رمضان ذلك أيضًا تابعت "أسماء الله الحسنى" وتفسير معانيها لعمرو خالد. لا أستطيع تحديد هل كان ذلك نفس الرمضان أم واحد آخر يليه؟ على كل حال، لا أحب عمرو خالد على الإطلاق، وصوته يصيبني بتوتر رهيب ورغبة في ركل أرجل الكراسي. طبعًا كان قول مثل ذلك يعدّ هرطقة وقت نجوميته في أواخر التسعينات ومطلع الألفية، لكن الآن لم يعد شيء يهم، صدقني، لا شيء يهم.
لم أهتم بمتابعة البرنامج إلا عندما قال إن مصدره كتاب الدكتور راتب النابلسي عن الأسماء الحسنى، وأنا قد شاهدت له حلقات من قبل فأعجبني. تعلقت ببعض الأسماء جدًا مثل "الرحمن" و"الجبّار" و"الودود" وصرت أدعو بها كثيرًا. كانت أمي في العيادة بعد الإفطار وتيتة نايمة وبقية إخوتي في الجامع يصلّون التراويح وأنا فضلت البقاء بالمنزل، أتطلع للسماء من نافذة الصالة الواسعة وأقول يارب. كنت أدعو بقلب صافٍ أن يكون صاحب العينين البنيتين لي، وإيمان عميق بأن الله سيحقق لي "الأفضل". ما زلت لا أعرف هل كان من "الأفضل" أن نكون / لا نكون معًا؟ يقولون الأيام بتقسّي والزمن بينسّي، لكني أجد نفسي مع مرور الوقت أميل أكثر لمسامحته ومسامحة الظروف والأشخاص والعائلتين على كل ما حدث، وهذه المسامحة لم تحدث في ظرف ليلة، بل استغرقت سنينًا عدّدته فيها المسؤول الأول عن افتراقنا بينما كنا ضحيتين. والآن تعبر ذكراه على مخيّلتي فأبتسم، أرسل له نورًا وسلامًا ودعاءً خفيفًا بأن يلطّف الله على قلبه ويرزقه صحبة تؤنسه، وأضعه على جنب في ركن قلبي وأكمل عملي، وابتسم.
الآن صارت الرمضانات مثل بعضها. توقفت عن النزول للجامع مطلقًا لأني كرهت الإمام وكرهت المصلّين بتسلطهم ونغزهم لساقيّ كي "أقرب أكثر" والحرّ وتعب ساقيّ المطلق بعد الإفطار. أفضل أن تكون علاقتي بالله بيني وبينه، في غرفتي المظلمة إلا من مصباح السرير كي أرى ما أقرؤه وأدعو به. صار الصيام أصعب، والجو أكثر حرًا، والسنين تتقدم بي لتذكرني أني لم أعد تلك الطفلة الشغوف بتفسير كلمات تتر يغنيه علي الحجار وتركيبها على حياتها الخاصة أو أن يأخذ الآخرون بالهم منها فيربتوا على كتفيها. لم يبق لرمضان سوى بحة في الحلق من عطش بالغ ودعاء خفي بأن يرحم الله قلبي في ضعفه وشيبته، ورغبة في أن تكون تيتة في مكان أفضل، وأن تسامحني على ما قصّرت في حقها.

رمضان كريم :)
_____________________________________
نُشر في نون بتاريخ يوليو 2014
http://nooun.net/article/1088/