Sunday, June 5, 2016

الألم والتكوين




بقلم: د. يوسف برودي
ترجمة: رزان محمود

نرى مرة بعد أخرى الجمال يتشكّل خارجًا من رحم المعاناة.
"يعتبر الإحساس والشوق قوتين دافعتين خلف كل السعي البشري والإبداعات الإنسانية".
- ألبرت أينشتاين.

"المطلوب منا أن نحب الصعاب، ونتعلم كيفية التعامل معها. ففي الصعوبات تكمن القوى الصديقة والأيدي التي تعمل على تشكيلنا. وفي الصِعاب يجب أن نحصل على متعنا وسعادتنا وأحلامنا، والتي في مقابل عمق الصعوبات تقف متفردة، ونرى لأول مرة مدى جمالها".
- رايني ماريا ريلكه.

ما العلاقة بين الألم الشعوري والأفكار والأفعال الإبداعية؟
في رواية عالم جديد شجاع، تخيّل الكاتب ألدوسهكسلي مستقبلاً يقع ضمن تصنيف "نقيض اليوتوبيا"، والذي فيه نجحت الآلام النفسية في أن تصبح شيئًا من الماضي، في مجتمع يعيش فيه بشر لا يتوقعون أقل من السعادة طيلة الوقت. أصبحت العواطف السلبية غير ضرورية على الإطلاق، حيث إنها تذوب كليةً لدى ابتلاعك مادة شهية واسعة الانتشار وبلا آثار جانبية، تُدعى "سوما".

إذا كان منع كل آلام الحياة بسهولة تناول قرص سوما فهل ستتناوله؟
ولو الآن الأمر كذلك، كيف تظن أن هذا سيؤثر على إنتاجك الإبداعي؟

وبينما يمكن للألم النفسي أن يسبب كل أنواع المعاناة، فيمكنه أن يصبح أيضًا محرّكًا مهمًا للإبداع الإنساني. تستطيع المِحن أن تفيدنا، حيث إننا غالبًا ما نتحرّك نحو الإبداع، لحاجتنا إلى الشعور بأننا أفضل، ولتحسين جودة حيواتنا وحياة مَن يحيطون بنا.

تعتقد نظريات عِلم النفس أن بإمكان المشاعر السلبية تعزيز الإبداع بالعديد من الطرق. والأهم، فإن المشاعر المُحزنة تسمح بإفراز طاقة للعمل، كما يُعدّ التسامي بمصادر القلق لتصبح إنتاجًا مبدعًا واحدًا من أصحّ الطرق الممكنة للتأقلم مع الألم.

توفّر المصاعب الشعورية أيضًا بئرًا مهمة للمحتوى، ومصدرًا لا ينتهي من الموادّ التي يمكن التعبير عنها. وبسبب ذلك، فإن المنع الافتراضي للألم النفسي سيقلل جدًا من مدى الإبداع البشري في كلٍ من الفنون والعلوم والجمال والحق. وفي عالم ألدوسهكسلي، كان المتوحشون فقط هم من قدّروا التعقيد العاطفي لأعمال شكسبير، الشاعر المنسيّ.

تعتبر المقاومة الصِرفة في وجه الصعوبات الشعورية مفتاحًا أساسيًا للإبداع. خصوصًا أن المبدعين غالبًا ما تواجههم فكرة التعامل مع الرفض الاعتيادي، خارجيًا وداخليًا على السواء، لطريقة تفكيرهم المختلفة. وللبعض منهم، يمكن أن يؤدي هذا للإحساس بعدم الرضا التام عن النفس إلى الركود الإبداعي في النهاية. وبالنسبة لآخرين، فإن القدرة على تحمّل الرفض المتكرر والتساؤل الذاتي يمكنها أن تطلق التدفق الإبداعي من مكمنه.

تعطينا الأبحاث العلمية الحديثة (التي أجريت على العلاقة بين الشعور والإبداع) مفاتيح أكثر للفهم: عندما تكون المشاعر السلبية قوية، فإنها تلجأ لإعاقة الإبداع (كإعاقتها للتحفيز والتركيز وغيرهما)، لكن عندما تكون معتدلة فحسب، فترتبط الأمزجة السيئة (مثل الأمزجة الجيدة) بالإبداع المتزايد. يؤدي بنا الشعور بالسوء لاتباع طريقة تفكير نقدية/ تحليلية، الأمر الذي يساعدنا على رؤية ما إذا كانت إستراتيجية معينة غير نافعة وبحاجة للمراجعة.

وطبقًا لمسار آخر من الأبحاث، فيمكن لشعورنا بالتحسن أو بالسوء أن يكون أقل أهمية للإبداع، أقل مما إذا كان هذا الشعور آتيًا بقدر متصاعد من التحفيز أم لا. وعلى هذا، فإن زيادة الإبداع غالبًا ما تقع عند الشعور بعواطف مستثارة، مثل الغضب أو الأذية (أو الحماسة)، وتقل تلك الفرص عند الشعور بعواطف أقل إثارة، مثل الإحباط (أو الاسترخاء).

هناك أيضًا أبحاث تفترض أن الناس يصبحون أكثر إبداعًا حينما يستطيعون التعبير عن كلٍ من المشاعر السلبية والإيجابية، وعندما يشعرون بالدعم موجّهًا لهم ممن حولهم. وبعبارة أخرى، التمتع بحياة كثيرة المشاعر -بما في ذلك التجارب المؤلمة- داخل سياق العلاقات الجديرة بالثقة يعتبر أفضل تركيبة لرعاية الإبداع وإذكائه.

الجمال عبر المصاعب، أو تقدير الصعوبات مع غاندي وبيلي هوليداي.
لأن الجانب الشعوري المظلم قد ألهم العديد من أكثر الإبداعات الإنسانية تأثيرًا، فعلينا أن نضع في الاعتبار النتائج المحتملة قبل التفكير في منع الألم بدلاً من التواؤم معه.

مرارًا وتكرارًا، نرى الجمال يتشكّل خارجًا من الأذى. هل بإمكان أحد تخيّل شكل الموسيقى الحديثة إذا لم يكن بها نوع "البلوز"؟ فربما لم يكن من الممكن نشوء أي أغنية أو نوع موسيقي له جذور في البلوز، مثل الجاز والروك آن رول والبانك والبوب والفانك والهيب هوب، وذلك في عالم ألدوسهكسلي الخالي من الأبعاد.

للموسيقى الأمريكية جذور في الألم النفسي وغياب العدالة، مع أمثلة لا تنتهي للإبداعات العظيمة بالرغم من -أو ربما بسبب- المصاعب. نشأت بيلي هوليداي في أقصى درجات الفقر، وعانت من العنصرية والاضطهاد الجنسي خلال حياتها، تلك التجارب التي شكّلت عمق أدائها الصوتي وعززته.

هل علاقتك بموسيقى البلوز بحاجة لإعادة النظر؟ إذا كنت تسعى بلا طائل للهروب من ألم المشاعر أو الحدّ منه، فهل ستكون فكرة أفضل أن تمتلكه وتختبره وتوظفه؟
وماذا عن خطوك للأمام للتعلم كيف تحب الصعاب، كما يشجعك ريلكه؟ هل هذا الشيء ممكن؟

قبل أن تحاول الإجابة على هذا السؤال الضخم، ضع القصة التالية في اعتبارك، والتي حكاها غاندي الذي ربما قام بأكثر مما قام به أي شخص آخر بمفرده في سبيل خلق طريقة جديدة للتقدم السياسي. كانت أفكاره الجديدة عن المقاومة باللا عنف في وجه الظلم الاجتماعي قد أدت مباشرة وبطريقة غير مباشرة أيضًا لتحسين الظروف المعيشية للمليارات حول العالم.

شرح غاندي كيف طُرد من عربات الدرجة الأولى في القطار، وأمروه أن يركب في عربة الأمتعة، وذلك بعد انتقاله إلى جنوب إفريقيا بوصفه محاميًا صغيرًا وفي طريقه للعمل بأول يوم. ولم يكن غاندي الذي عاد حديثًا من لندن على وعي بأن الدرجة الأولى مخصصة للبيض فقط. وعقب شعوره الجارف بالمهانة، رفض الانصياع للأمر وتعرّض للطرد العنيف من القطار. قضى غاندي تلك الليلة الشنيعة من الشتاء على رصيف المحطة بلا معطف أو طعام.

فكّر في مشاعره عن الظلم الذي تعرّض له، عن العديد من الاحتمالات المختلفة التي يمكنه فعلها لاحقًا، وعن النتائج المحتملة لكل فِعل قد يتخذه، على نفسه وعلى الآخرين. ماذا كان سيحدث لو أنه اتبع رغبته في إيذاء محصّل القطار التالي وإلقائه من القطار؟ ربما عليه أن يترك البلاد كلها والعودة للهند؟

بالعودة لسنوات ماضية، وصف غاندي أن تلك الليلة الطويلة على رصيف المحطة باعتبارها الأكثر إبداعًا في حياته. فحينما أشرقت الشمس أخيرًا، قفز في القطار التالي واتجه مباشرة للعربة الأولى، مصممًا على المقاومة دون اللجوء للعنف.

من هنا كانت فلسفة التحركات التي ما زالت تلهم عددًا لا يُحصى من الحركات الاجتماعية حول العالم، بما في ذلك حركة الحقوق المدنية الأمريكية والربيع العربي وحركات "احتلّوا". نمت فرضية غاندي سريعًا لتصبح أداة فعّالة للتقليل من الألم المنهجي دون التضييق على مجال أي شخص من المشاعر. ويمكننا تعقب جذور تلك الأفكار إلى عددٍ من أكثر ساعات غاندي ظلمة وإيلامًا.

المصدر: اضغط هنا
********
نُشر في نون، هنا

من بعض المعاناة يخرج النور والوَنَس

يصل بي الأمر في بعض الأحيان للعجز عن التنفّس، فقط التنفس.
يصبح أخذ نَفَس داخل وتسكينه في صدري عسيرًا، فتأتي أنفاس قصيرة متلاحقة لتزوّدني بمجرد هواء للحياة، بينما أنا أقل من أن أحيا.
أخيرًا، يصدر الأمر في عقلي بأن أهدأ، لا داعي للخوف، لا داعي للتوتر. أنا في مكان آمن نسبيًا، سأكون أفضل.

أصل من الخارج -عبر ثلاث سيارات أجرة- لحافة سريري، فأتهاوى على الأرض وظهري للفراش، مربعّة بجوربي الصوفي الذي لا يدفئني، أحاول التنفس.
أتجاوز أمي، التي ما إن رأتني حتى بدأت في مونولوج طويل عن حوارها الحادّ الأخير بينها وبين أخي، وكيف أنها تعاني في إفهامه حقائق منطقية. أربّت على كتفها وأمضي لحجرتي بلا كلام، لأن أي محاولة لفتح فمي ستنتهي بالتقيؤ على أرضية المطبخ.
هكذا، تمضي بعض أيامي، وهكذا أيضًا، أتشكّل.

ترغمني بعض الآلام على الكتابة. في الحقيقة، أهرب من كل شيء إلى الكتابة. ليس لي طقوس معيّنة وإن حاولت ذلك، لكن يساعدني في كثير من الأحيان أن تكون حياتي ثابتة نسبيًا، دون تقلبّات كثيرة عنيفة.
طبعًا هذا لم يحدث طوال الوقت. ففي زمن ما، آمنّا بقدرتنا على مطاردة الحلم واصطياده لتحقيقه، فخرجت جموعنا متحمسة، تشير للشمس وتقول سنحلّق، سنصل. ما حدث أن بعضهم حلّق فعلاً، لكنهم تجاوزوا الشمس ووصلوا لسماوات أعلى منّا بكثير.

في زمن تالٍ، كان الخوف هو السمة، هو العنوان، هو الحالة السائدة. سادت وحوش تكسر بخطوها الأرض فيئنّ الطين وتنطفئ الزهيرات الدقيقة، وتغادر الطيور الصغيرة السماء فوقهم فزعًا، بينما يعمّ جورهم الأرجاء، ويختفي الأنقياء الحالمون.

في أزمنة أخرى متعاقبة ولم تنتهِ بعد، ينتشر الظلام وتتوارى الشمس وتختفي الطائرات الورقية الملونة، لأنها تخشى لو انقطعت خيوطها أن تستقر بها الحال فوق قضبان ينطوي خلفها كسير لا يأمل للخروج سبيلاً.

بعد كل هذا وذاك، هربت للكتابة.
جاءت كتابتي ملوّنة، مليئة بالرسوم الكلامية، كهذه تمامًا. تماهيت مع الكلمات فأخرجتها من أعماقي، قلت كل شيء بلا كثير انكسار كيلا أسبب ألمًا للقارئ. النتيجة أني لم أفلح تمامًا وخرجت كلماتي مؤلمة.
كانت لنا أجنحة فحجّمناها وقنعنا بمكاننا على الأرض بجوار السور، وكان أن كتبت عنها، فخرجت مؤلمة.
لم أقصد هذا كله، لم أقصد الكتابة لكني كنت سأنفجر، ولم أقصد الإيلام لكني عانيت من الألم أنا نفسي، فلم يخلُ قلبي من نداءٍ للمشاركة.

يقول كثيرون إن كتابي خرج مؤلمًا، لم يحتمله بعضهم، لكن أغلبهم شعر به يلمسه، يحادثه في مناطق معينة. شعروا به يناديهم فيكلمهم عن أمور ويضع اعتبارات لعلامات ويثرثر في آذانهم بأشياء، وهم يصغون له أثناء محاولتهم للنوم أو الطهي أو تمضية الوقت في المواصلات. يقولون إنه يدفئهم.

أثناء كتابتي لعزيزي معلوم الهويّة، كنت أحكي له عما يهفو به قلبي، وعما أتذكره من لقاءاتنا معًا. أجترّ تلك اللقاءات القليلة وأعيش عليها، وأسمع أم كلثوم تغني "فكروني" فأبتسم، وأواصل الكتابة.

تقول عزيزات إلى القلب إن حديثي معه في الكتاب آنسهنّ. يتدفأ قلبي لثانية، وأبتسم.
ربما ليس كتابي أروع الكتب، لكنه خرج صادقًا على ألمه، مؤنسًا على شدته في بعض المواضع.
أنا لا أزكّيه، فقط أحكي إنه من بعض المعاناة يخرج بعض النور والوَنَس.
********
نُشر في نون، هنا

13 علامة على وجود والدٍ مسيء لا يدركها أكثر الناس

بقلم: هولي تشافيز
ترجمة: رزان محمود

يقدّم أغلب الآباء أفضل ما لديهم مخلصين من أجل توفير تربية سعيدة وصحية لأبنائهم، لكن حتى هؤلاء الأفراد يمكنهم ارتكاب أخطاء عن غير قصد، والتي ينتج عنها مستقبلاً حجز مواعيد لدى المعالج النفسي.

ولسوء الحظ، يذهب بعض الآباء لأبعد من الأخطاء البسيطة ويدخلون ضمن خانة الإساءة. وبغض النظر عما إذا كان الوالد مسيئًا عن قصد أم لا، فهناك العديد من التصرفات التي تسبب ضررًا نفسيًا وعاطفيًا للطفل، الأمر الذي ينتج عنه تأثير هائل يستمر حتى بعد كِبَر سنه.

إذا مررت بأي من المواقف التالية كطفل، فإن الاحتمالات عالية لاعتبار أحد والديك أو كليهما مسيئًا، ولو بدرجة بسيطة.

1- يفشلان في إحاطتك بالأمان والدعم
يؤمن بعض الناس أن إظهار الحب الصارم طريقة مهمة للتأكد من أن أطفالهم قادرون على الاعتناء بأنفسهم في المستقبل. إذا كنت من مستقبِلي هذا النوع من المعاملة على نحو مستمر، فربما تعتقد أن له تأثيرًا إيجابيًا على حياتك. ومع ذلك، فإذا انهرت الآن بسبب أي فشل أو رفض تلقيته، فإنه على الأغلب ناتج عن رفض والديك المسيء لتزويدك بالكمية المناسبة من الأمان والدعم عندما كنت صغيرًا. قد ينجح الحب الصارم في بعض الأحيان، لكنه لا يمكن أن يكون المنهج الوحيد لمعاملة طفل، وذلك إذا كان الوالدان يريدان لطفلهما أن يصبح بالغًا صحيح النفس.

2- يبالغون في النقد
لكل الناس آباء ينتقدوهم من وقت لآخر. وبدون هذا الأسلوب، ربما لا نعرف كيف نؤدي العديد من الأشياء تأدية سليمة، مثل المهام اليومية، كغسيل الملابس. لكن الوالد المسيء يذهب لحدّ التطرف، بأن يصبح مسرفًا في النقد حيال كل شيء يفعله الطفل. يمكن للوالدين أن يرتكبا خطأ الاعتقاد أنهما يجنّبان بفعلهما ذلك أطفالهما ارتكاب الأخطاء الكبيرة. لكن لسوء الحظ، ما يقوم به هذا السلوك فعلاً أنه يدفع الطفل لتطوير ناقد داخلي قاسٍ، والذي يمكنه أن يؤدي لحدوث إعاقة نفسية أثناء النمو.

3- يطلبون اهتمامك
عادة ما يحوّل الآباء المسيؤون أطفالهم إلى البديل الأبوي لهم، بطلب إعطائهم الانتباه والاهتمام طوال الوقت. قد يُرى هذا على أنه توثيق الروابط بين الوالد والطفل، لكنه في الحقيقة علاقة طُفيلية تتطلب الكثير من وقت الطفل وطاقته اللذين بدلاً من ذلك يجب أن تتوجه ناحية تعلم المهارات الجديدة. وعلى الرغم من أن هذا يبدو صعبًا في بعض الأحيان، فإن الوالد السليم نفسيًا سيعطي أطفاله مساحة كافية للنمو وأن يكونوا أطفالاً بحق دون طلب التدخل الدائم لملاءمة احتياجات الأبوين الخاصة.

4- يُطلق الأبوان نكاتٍ مسيئة متعلقة بالطفل
ينتقد كل الآباء أطفالهم نقدًا لاذعًا في بعض الأحيان، لكن حينما تتحوّل تلك التي تُسمّى نكات إلى عادة مستمرة، فإنها مشكلة كبيرة. لست بحاجة لتقبل هذا النوع من السلوكيات لمجرد أن والدك اعتاد على إطلاق النكات حول أشياء تخصك مثل طولك أو وزنك. وفي النهاية، فإن هذا أسلوب يقلل من قيمتك ويجعلك تشعر بالسوء البالغ حيال نفسك. إذا اعترى الأبوين قلق مشروع حيال طفلهما، فعليهما أن يكونا صريحين وغير منتقدين، وهذا يعتبر العكس تمامًا من إطلاق النكات الوضيعة.

5- يدفعانك لتبرير التصرفات المريعة
هل نشأت معتقدًا أن أحد والديك كان مسيئًا لك جسديًا أو عاطفيًا لأنك استحققت ذلك؟ لو الإجابة بنعم، فقد تستمر للآن في تبرير تصرفات الآخرين المريعة نحوك. يمكن للآباء المسيئين قلب أي موقف ليناسب احتياجاتهم، وهذا يترك الطفل أمام خيارين: إما تقبّل كون والديه مخطئين أو توجيه كل اللوم لداخل نفسه. وفي أغلب الأحوال، فإن الأطفال -حتى الذين كبروا منهم الآن- يختارون الخيار الثاني.

6- لا يسمحان لك بالتعبير عن المشاعر السلبية
إن الآباء الذين يفشلون في تغذية احتياجات أطفالهم العاطفية ويستخفون بمشاعر الابن السلبية ينشئون مستقبلاً يشعر فيه الطفل بعدم القدرة على التعبير عن احتياجاته. لا يوجد أي شيء خاطئ في مساعدة الأطفال على رؤية الجانب الإيجابي من أي موقف. ومع ذلك، فإن الرفض التام لمشاعر الطفل السلبية والاحتياجات العاطفية قد يؤدي للاكتئاب ويجعل من الصعب عليه التعامل مع السلبية عندما يكبر.

7- يخيفون أطفالهم حتى عندما يكبرون
ليس من الضروري أن يتوافق الاحترام والخوف مع بعضهما بعض. وفي واقع الأمر، فإن الأطفال الذين يشعرون بالحب والدعم والارتباط بوالديهم ترتفع فرصهم كثيرًا في أن يصبحوا سعداء عندما يكبرون. وعلى الرغم من أن الانضباط ضروري لا محالة من وقت لآخر، فإن الآباء غير المسيئين لا يوظفون الأفعال المخيفة جدًا والكلمات التي تخرّب النفس البشرية خرابًا دائمًا. لا يجب أن يكون الأطفال خائفين ليظهروا احترامهم للوالدين، ولا ينبغي للبالغين أن يشعروا بالقلق في كل مرة يتصل فيها الأبوان أو يرسلا رسالة إلكترونية.

8- دائمًا ما يضع الوالدان مشاعرهما أولاً
قد يعتقد الأبوان أن مشاعرهما يجب أن تأتي أولاً أثناء الأمور العائلية، لكن هذه طريقة عتيقة للتفكير ولن تعضد العلاقات الإيجابية. وعلى الرغم من أن الآباء يحتاجون لاتخاذ القرار الأخير حيال كل شيء، من العشاء للتخطيط للإجازات، فإنه من الضروري وضع مشاعر كل أفراد الأسرة في الاعتبار، بما في ذلك الأطفال. غالبًا ما يرغم الأشخاص المسيؤون أطفالهم على كبت مشاعرهم الخاصة من أجل إسعاد آبائهم.

9- يرغمونك على إعادة اختيار أهدافك
هل أصبح أيٌ من والديك مهتمًا بكل شيء تفعله لدرجة أنه يتولى التحكّم في كل شيء أو حتى يحتلّ مكانتك؟ قد يبدو على هذا أنه تصرف شخص مهتمٌ بحياة طفله، لكن ما يقوم به فعليًا أنه يُصعّب على الطفل تحقيق أهدافه. على سبيل المثال، إذا أردت بيع 50 صندوقًا من البسكويت في نفس الوقت الذي تقرر فيه والدتك أن تخبز البسكويت وتوزعه للجيران، فسيكون من الصعب كثيرًا عليك أن تنجح في تحقيق هدفك التجاري. يمكن لهذا السلوك أن يخرجك دائمًا عن أهدافك، إذا سمحت لوالديك أن يستمروا في تصرفاتهم تلك نحوك.

10- يستعملان الذنب والنقود للتحكم فيك
يشعر كل طفل بالذنب حيال والديه أو بسببهما، لكن الأفراد المسيئين يلجؤون لهذا الأسلوب على نحو مستمر. وحتى عندما تكبر، فإن والديك، أو أحدهما، ربما ما يزال يتحكم فيك بإهدائك هدايا غالية ثم يتوقع منك أشياء في المقابل. إذا فشلت في أن تقوم بما يريد، فإنه يحاول أن يجعلك تشعر بالذنب حيال ذلك بسبب "كل ما فعلوه من أجلك". إن الآباء الأصحّاء تجاه أطفالهم يعرفون أن الأطفال لا يدينون لهم بأي رد فعلٍ محدد في مقابل الهدايا أو النقود، خصوصًا حينما لا يطلب الطفل هذه الأشياء بالمقام الأول.

11- يُظهرون نحوك المعاملة الصامتة
من الصعب التحدث لأي إنسان عندما تكون غاضبًا، لكن إقصاء الطفل عن طريق المعاملة الصامتة يصبح ضارًا جدًا وأمرًا غير ناضج. إن اتباع هذا المنهج السلبي - العدواني يؤذي أي نوع من العلاقات، ويجعل المتلقي يشعر بالضغط تجاه حلّ الموقف، حتى عندما لا يكون قد فعل أي شيء خطأ. إذا كان الوالد غاضبًا جدًا لدرجة عدم القدرة على إجراء حوار عقلاني، فعليه أن يستأذن وينهض لبضع دقائق بدلاً من التجاهل الصارخ لطفله.

12- يتجاهلون الحدود الصحية
يمكن للآباء أن يبرروا المراقبة الدائمة لأطفالهم، وفي بعض المواقف، قد يستدعي الأمر القيام ببعض التلصص للمحافظة على سلامتهم. ومع ذلك، فإن كل شخص بحاجة لإقامة الحدود حولهم وخصوصًا المراهقين. إن الآباء المسيئين يتجاوزون تلك الحدود في كل فرصة ممكنة، ويسبب هذا العديد من المشكلات. على سبيل المثال، فإن الوالد المسيء يفتح باب الطفل دون الطرق قبلاً. ينشئ هذا نمطًا يجعل من الصعب على الأطفال أن يفهموا الحدود ويتعرفوا عليها لاحقًا في حياتهم.

13- يجعلانك مسؤولاً عن سعادتهما
إذا قضى أحد والديك وقتًا طويلاً لإخبارك بالكثير الذي تخلّى عنه من أجلك، وذلك لربطه مع تعاسته، فإنه قد وضع توقعات غير عقلانية على دورك في حياته. لا يجب أن يكون أي طفل مسؤولاً عن سعادة والديه. وأيضًا لا يجب على الآباء أبدًا أن يطلبوا من أطفالهم التخلّي عما يسعدهم من أجل تحقيق العدل في معادلة "أنا أعطيتك كل شيء فلتعطني أنت أيضًا"، إن الإرغام على ذلك الموقف سيجعل من الصعب على الأطفال فهم عندما يكبرون أننا جميعًا مسؤولون عن سعادتنا الخاصة، وليس غيرنا.

قد يبدو من المحال إزالة الأشخاص المسيئين من حياتك، وبخاصة إذا كان أحدهم والدًا لك. وإذا لم تتخذ موقفًا صارمًا سيكون من الصعب كثيرًا تصحيح الضرر النفسي والعاطفي الذي تسبب فيه ذلك الوالد أثناء طفولتك. وعلى الجانب الآخر، فإن أي والد مسيء يجد تصرفاته في إحدى النقاط الثلاث عشرة المذكورة بالأعلى، يجب عليه أن يطلب النصيحة من متخصص نفسي من أجل كسر النمط السلبي لتصرفاته تجاه أطفاله.

المصدر : اضغط هنا 
********
نُشر في نون، هنا

رسالة فحت البحر


عزيزي الذي لا ينبغي ذِكر اسمه:

الأمر معقّد جدًا. ما المعقد في الحب؟ يسألني صوت في مؤخرة عقلي. ما أبسط أن يتحابّ اثنان ويتقابلا على سطح بناية بعيدًا عن المدينة المشبعة بالموت والتي تكره الحب، وأن يشاهدا السحاب والحمَام الأبيض عائدًا إلى غيّته قرب المساء! ما أبسط أن يحتاج أحدنا للسَنَد فيجد الآخر حاضرًا لأجله، ولو بالتليفون، أو على رسالة نصية تقول "أنا لأجلك"! لكن الأمر ليس سهلاً هكذا.

عندك أولاً.. أنا لا أعرف مشاعرك نحوي. ربما تستلطفني، ربما تبقيني في حيّز الصداقة، ربما لا تفكّر أصلاً في الحب، ربما تفكّر في الهجرة فلا تريد مشاريع عاطفية تعطلك عن ذلك، ربما هناك أخرى، على الرغم من كلامنا معًا الذي لم تأتِ فيه على ذِكر أخرى أو أي إنسانة مقرّبة لك حاليًا. لا أريد إحراج نفسي رغم أن البقاء على الحياد مؤلم في أحيان كثيرة. سأفعلها مرة وأعترف لك، سواء برسالة طويلة أو رسالة نصية أو وجهًا لوجه، لكني بالتأكيد لا أرغب في أن تؤجل اللحظة والاعتراف إلى حين أراك صاعدًا العربة الزرقاء ذات النوافذ الشبكية الضيقة.

ثانيًا.. فكرة السَنَد نفسها. أمس قرأت مقالاً قصيرًا عن "اضطراب التعلّق"، الذي يتحدث عن افتقاد الطفل للاهتمام الكافي، وتعرضه للتجاهل، فينشأ جائعًا للاهتمام، ويبدأ في الدخول في علاقات ربما تكون مؤذية له فقط ليحظى ولو بقليل من الحب. أنا منذ عرفتني وأنا أحب على روحي، أنجذب لأشخاص لا يعرفون أصلاً أني موجودة على ظهر الأرض، وأظل أكلمهم بالساعات في أحلام اليقظة، وأحبهم أكثر، وأتخيلهم يسندونني، ويربتون عليّ، ويحادثونني. تخيّل؟ أفتقد حتى المحادثة والسَمع والعلم بأن كلامك لن يُحكم عليه أو يُستخدم ضدك أو تُخوّن في أفكارك.

الآن.. ما توصلت إليه من قراءة وبعد المرور على عدة أطباء نفسيين، أني لا بدّ من أن أعرف كيف أقف على أرض صلبة وحدي. كيف أسند نفسي، كيف أحبها وأتقبلها وأحاوطها بالاهتمام وألا أتجاهلها، وأن أرعاها وأحدب عليها. عندها فقط، سأعرف كيف أوجّه طاقة حبي نحوك دون الانتظار المَرَضي لاهتمامك نحوي ورعايتي رعاية طفلة لا تعرف كيف تخطو نحو الشارع ولا تواجه السيئين في المواصلات.

هذه هي المشكلة. الموقف معقّد جدًا، لكن كل يوم، عندما أرفع وجهي عن الشاشة ومتابعة الأخبار التي تعكّر الدم، أفكّر فيك. أفكّر أني يجب إخبارك بالأمر، لكن وماذا بعد؟ هنعمل إيه؟ ماذا بعد الاعتراف؟ هل ستسهل الأمور أم تتعقد الدنيا أكثر؟

في عشية يوم المظاهرات، أرسل أحمد مهنى الكاتب والسيناريست يقول: "الحقوا اعملوا الحاجات اللي بتحبوها..."، كان يخشى أن يصاب أحد أحبائنا أو يعتقل أو يحدث أي شيء يجعلنا نغترب عن بعضنا. اعتبرتها إشارة من السماء أن أفعلها وأعترف، لكني تراجعت، قلت الوقت ليس مناسبًا.

أنا أفحت في البحر منذ سنين طويلة، يأتي الموج ويردم ما حفرته، لا حب حقيقي أو وَنَس أو اعتراف بالهزيمة والفشل، لا حب لنفسي أو مراعاة لاحتياجاتها، لا شريك لطيف يشجعني أن أدع الثقة تنبع من نفسي لا من الآخرين، كما يقول حسين لليلى في رواية "الباب المفتوح". سأحفر كثيرًا ما دمت على هذا النحو، سأظل مذبذبة هل أخبرك أم لا، هل أواصل مرحلة استكشاف الذات وعلاج النفس وحدي أم أشركك في الأمر كله. أنا محتارة جدًا، محتارة كثيرًا. لم أكن أتصوّر أن الحبّ يعذب هكذا. أعرف من تجاربي السابقة أنه لا جدوى منه ولا من مشاعري، لكن.. أريد لهذه المرة أن تكون مختلفة.

عزيزي: "هفضل أحبك من غير ما أقولك إيه حيّر أفكاري" على طريقة الستّ في تعذيب نفسها وإرساء نموذج جلد الذات لسامعيها ومحبيها.
************
نُشرت في نون، هنا

يا عندليب قول شكوتك.. كتم الغُنا هو اللي هيموّتك*

ما بين المواقع الرافضة لموضوع مثير للجدل جدًا، وهو التخلّي عن ارتداء غطاء الرأس (الحجاب)، والمعلّقة على هذه القصة بكل عبارات التهويل والمبالغة "يا لهول ما سيلحقها من عقاب الله!"، وما بين التدوينات والمقالات المكتوبة بالإنجليزية لفتيات مسلمات -سواء كُنّ من أصول عربية أم لا- قررن التخلي عنه وهن في بلاد غير مسلمة، وذلك حماية لهنّ من الاضطهاد الديني أو التمييز العنصري، ورغبتهنّ في الاندماج مع المجتمع. ما بين هذا وذاك، وبين المقالات العربية التي عرضت -مجرد عرض- قصصًا لفتيات قررن التخلي عنه بإرادتهنّ، يتيه الباحث عن نظرة متعقلة للموضوع.

لماذا التخلّي عن الحجاب تحديدًا؟ لأنه موضوع خاضع لجدل شديد، حيث إننا في مجتمعات تربط التدين بالمظهر الخارجي، وتحب أن تحشر أنوف الجميع في كل خصوصيات بعضهم بعض. لماذا الحديث عنه؟ لأن كثيرات تخشين التخلّي عنه (أو ارتداءه في حالات أخرى) مخافة كلام الناس والأهل والزوج، وأصدقاء النادي، وطنط اعتماد قاطنة الدور الرابع، ونظرات البوّاب وزوجة البوّاب، والصبي حمدي الذي يأتي لجمع القمامة كل صباح. أما لو كانت الفتاة مستقلة وتقطن وحدها، فالاعتبارات أكبر، والانتقادات أضخم، والتبكيت أشد ضراوة.

لماذا لا تتحدث الفتيات عن ضرورة امتلاكهنّ لرأيهنّ الخاص؟ سواء بارتداء ما يعجبهن من ثياب، اختيار الجامعات على الهوى وليس على المجموع، اختيار من يقضين معه الساعتين القادمتين، ناهيك بالعمر كله.. لماذا تخشى النساء الحديث عما يدور بعقولهن؟

تقول "كاثرين كالفريت" في مقالها بمجلة "أوبرا" ذائعة الصيت: 
"لم يكن التعبير عما أشعر به في أغلب الأوقات خيارًا مسموحًا لي حتى بالتفكير فيه. كان الأمر بمثابة القفز من علٍ دون مظلة، وهو ما أخافني كثيرًا.
يعلم الرب أن أهلي لم يربّوني على الحديث بحرية: كان الصمت من ذهب للأطفال، وبعيار 24 قيراطًا في منزلنا. اعتُبر جزءًا من ابتهال الفتيات المهذبات، مرتبطًا بقواعد "كيف تصبحين لطيفة"، فالفتيات اللطيفات لا يجادلن، لا يرددن أو ينتقدن أو يعلو صوتهنّ، ويقلن شكرًا ومن فضلك، لكن لا يقلن أبدًا أي شيء قد يجرح شعور الآخرين".(1)

تربّى عدد غير قليل من الفتيات على هذه القواعد، مدموجة في مجتمعنا بصيغ التدين السطحي أو الزائف، فترى الأب يكذب مِرارًا في سماعة التليفون لكنه ينهر البنت إذا قالت رأيها في أي الفريقين تريد الالتحاق في الثانوية: العلمي أم الأدبي.. وهكذا، عندما يصل الأمر لقرارات مصيرية مثل ارتداء الحجاب أو خلعه، فهنّ يجبنّ تمامًا، أو يتخذن الخيار الأصعب والأكثر موافقة لعقولهن وقلوبهن: اتباع ما يفكّرن فيه، والتعبير عنه.

يذكر موقع الويكي هاو تحت عنوان "كيفية التعبير عن نفسك" الخطوات التالية: (5)
أولاً: لا تقلق بشأن ما يعلق به الآخرون عما تريد قوله، أو كيفية رد فعلهم تجاهك. اعلم دائمًا أن لك الحق في التفكير والتعبير كما تشاء.
ثانيًا: لا تدع السلوكيات العدوانية تخيفك، واحتفظ بهدوئك، ولا تصرخ في وجه من تحادثه بل تكلّم بوضوح ونبرات صوت معتدلة، فبهذا يصل صوتك جيدًا.
وأخيرًا: تدرّب على الكلام والتعبير عن رأيك مع أصدقائك وعائلتك، لأنهم أول ناس المفروض أن تتحدث معهم. آمِن بنفسك كثيرًا وبقدرتك على امتلاك رأي حر وعلى التعبير عنه.

تبدو الخطوات سهلة، أليس كذلك؟ فقط استجماع للشجاعة وترتيب الحجج واستعراضها بعين عقلك قبل نطقك بها. لكن النطق نفسه ليس سهلاً. أذكر مقالاً قرأته لـ"أليك فيشر"، كاتب بريطاني حديث التخرج، كتب لأول مرة منذ شهر تقريبًا على الـ"هافنجتون بوست" تدوينة يقول فيها: "نعم، لقد تعرّضت لاغتصاب في سنتي الأخيرة في الجامعة"، كان يقول إنه شعر بالخزي والذنب جرّاء تلك الواقعة، وأنه مسؤول ولو جزئيًا عن هذا الأمر: ألم يسكر ويفقد الوعي؟ لذلك لم يبلّغ المسؤولين أو الشرطة أو حتى أسر الكلية المهتمة بشؤون الطلبة. لم يتحدث حتى جاءه صحفي ليُشركه في موضوع صحفي عن العنف الجنسي في الجامعات، فوجد نفسه يرتجف وركبه تهتز بشدة، ورأسه يكاد ينفجر، حتى استجمع شجاعته وكشف عما يخبئه منذ ثلاث سنوات: "أنا تعرّضت للاغتصاب". لم يذكر ردّ فِعل المستمع، لكنه شعر بالقوة وأنه يمكنه امتلاك مصيره، حتى لو وصمه المجتمع بأنه "الرجل الذي اغتُصب". (2)

في جامعة ديوك الأمريكية، في شهر أبريل الماضي، والذي يُعتبر في أمريكا شهر الحديث عن الانتهاك الجنسي، والتوعية به وبما يمكن اتباعه من أمور لتجنبه ومنعه، أطلقت أسرة طلابية نسائية اسمها "ديوك ديفل ديش" حملة عبر الفيسبوك عنوانها "اجعلي صوتك مسموعًا". في هذه الحملة، صوّرن فتيات يحملن لافتات، بعضهن حملنها أمام وجوههن فلم نرهن، بينما الأخريات حملنها عاليًا ونظرن بتصميم للكاميرا. كُتب على بعض هذه اللافتات: (3)

 
"سنلعب معًا لعبة الآن، لكن عِديني أولاً أنك لن تخبري أمكِ أو أباكِ أبدًا عنها، اتفقنا؟"، كنتُ في الخامسة، وكان هو من أفراد العائلة.
 

"إذا كان الأمر اغتصابًا حقًا، لماذا لم تقطعي علاقتكِ به؟"، سألت نفسي نصف السؤال الأخير يوميًا، لأكثر من سنة.
 

"أنتِ لا تعرفين ما هو الاغتصاب الحقيقي".. كذا كان تعليق صديقتي المفضلة عندما أخبرتها أني تعرضت للاعتداء الجنسي.
 
"استرخي، لم يعتبر الأمر عمليًا اعتداءً إذا كان عشيقك هو من قام به. هل أنتِ متأكدة أنكِ لم تستمعي بالأمر ولو قليلاً؟".
 

"آه يا حلوتي، إن الاغتصاب كلمة قاسية حقًا. بل كان الأمر مجرد سوء تفاهم." – مُعالجي (السابق).
(لقد كنتُ فاقدة للوعي...).

في مصر، يُعدّ الحديث معيبًا وصادمًا لو دار حول التحرّش الجنسي، سواء في الشارع أو المواصلات أو العمل أو حتى في البيت. في حكاية لصديقة، قالت أمامي وأمام أختها إنها أُجبرت على الجلوس في غرفة واحدة مع قريبتها التي كانت تغيّر ملابسها، وأن قريبتها الأكبر منها في السنّ تلك، منعتها من مغادرة الغرفة، وبدأت في ارتداء ملابسها الداخلية أمامها. ذكرت صديقتي حرجها البالغ وكيف أنها ركزّت عينيها على السجادة الباهتة، بينما تختنق بإحساس أن ذلك "خطأ". كدت أجيبها بأن هذا يُعدّ "تحرشًا جنسيًا" بها، حتى عاجلتها أختها بالسخرية منها قائلة إنها كبيرة، وإن هذا خطأها، وإنها كان لا بدّ أن تغادر الغرفة، و... و... و... لم يكن خطأها بالمناسبة، وهي ضحية، وكان من الأصوب الصراخ مثلاُ. 

هناك تجارب عديدة، منها ما يبدأ عند أول عتبة السلم، مثل التحديق بالنظر واستكشاف الملابس وما تحت الملابس بالنظر من الأمام والخلف، وصولاً للاغتصاب أو انتهاك العرض في أقسام ومراكز الشرطة والسجون، مرورًا بالتلميحات الجنسية أو معاينة الجسد في أماكن العمل، أو حتى معاينة أماكن معينة من الجسد لدى زيارة القريبات لفتاة في سن الزواج (وكل السنوات مناسبة للزواج، لأنهن يؤمنّ أن الفتاة مزرعة تفريخ).

كل هذا الألم النفسي، كل تلك المعاناة والتفكير في الشذوذ عن المجموع، سواء بالتفكير في اتخاذ منظر خارجي مختلف عن السابق بالملابس أو قصة الشعر أو تثبيت الأقراط، أو كان الأمر يتعلق بالحديث عن انتهاك في الحقوق حدث مسبقًا.. كل هذا يجعل من الصعب جدًا على أي فتاة أن تعبّر عن رأيها حقًا. لذلك، سيظل "ورا الوشوش حكايات". وراء المظهر المحتشم رغبة عنيفة في الرقص في شوارع آمنة، رغبة في ارتداء فساتين دون اضطرار للأكمام والكارديجان في هذا الحرّ. وراء النظر للأمام بصرامة والمشية القوية رغبة في التطلع للمحال والسماء والابتسام للأطفال، والمشي بحرية أكثر دون اضطرار للهرولة أو النظر للخلف لنرى هل يتبعنا أحد أم لا. وراء الاضطرار لاستخدام المواصلات العامة والسماعات في الأذنين والكوع في بطن من يلمسنا من الخلف حتى لو اعتذر، الرغبة في الجلوس براحتنا تمامًا وإمالة الرأس من الشباك لعدّ السحاب أو تطليع اللسان لعساكر المرور.

لكن الأمر لن يستمر على هذا السوء، حتمًا. فهناك مبادرة "خريطة التحرّش"(4) التي توفّر دعمًا نفسيًا وقانونيًا عبر شراكتها مع منظمات حقوقية مثل "مركز النديم" و"مركز دعم المرأة" و"نظرة للدراسات النسوية" وغيرها من الجمعيات والمحامين والحقوقيين. كما توفر المبادرة خطًا ساخنًا لمعرفة كيفية التصرف في حالة حدوث تحرّش، وبها صفحة عن المراكز التي تقدّم تدريبًا على الدفاع عن النفس للمرأة. 

هناك حتمًا حكاية تستحق أن تُروى، شيئًا يستحق أن يُعاش، أن نرفع رأسنا ونصوّب عينينا في أعين من ينظرون إلينا باتهام أو بأمر بالسكوت أو الانضمام للقطيع خوفًا من كلام الناس. إنه احترام العقل، احترام الرغبة في التعبير عن الفِكر والأفكار الحرّة، رغبة في التعبير عن الذات والمشاعر. واحترام الجسد، أن يكون له صوته المسموع كي يلفت الانتباه أن شيئًا ما خطأ وقع، وأننا لا يجب أن نسكت عنه، حتى لو كان الأهل والأصدقاء والشريك والشرطة والقانون، في غير صفّنا.

____________________________________
المصادر:
(1)
(2)
(5)
أضغط هنا

* العنوان مقتبس من قصيدة لصلاح جاهين.
نُشر المقال على موقع نون، هنا