رزان محمود
17/4/2015
عثرت بالصدفة على
مسلسل "استدعوا القابلة Call The Midwife"، حين كنت أبحث عن ملفات
مسلسل آخر، في موقع التحميل بالتورنت. أثارني العنوان، وتساءلت ما المثير في حياة
القابلة/الداية ليصنعوا له مسلسلاً كاملاً؟ وهل كانت بالفعل هناك قابلات ليتحدثوا
عنهن؟ إن القابلة في الوجدان الجمعي المصري مرتبطة بأحداث غير سارّة على الإطلاق،
كالتأكد من عفة ابنتهم – مثل فيلم "الطوق والإسورة" وقصص يوسف إدريس –
أو ختان ابنتهم رغمًا عنها، أو التوليد بعنف مع كثير من الصراخ والرفس وحلّة
المياه الساخنة التي للآن لم أعرف فيما يستخدمونها! لكن القابلة في المسلسل
البريطاني نسخة أفضل كثيرًا جدًا من النسخة المصرية الجاهلة متسخة اليدين
والمتجهمة.
وُلد المسلسل من
كتاب، وهو مذكرات "جنيفر وورث" الذي يحمل نفس العنوان. وُلدت المذكرات
بعد قراءة وورث، القابلة لمدة سبع سنوات في نهاية الخمسينيات وأوائل الستينيات من
القرن العشرين، لمقال كتبته "تيري كوتس" في إحدى المجلات الطبية
المرموقة، تشكو فيه من عدم تمثيل مهنة القِبالة* جيدًا في الإعلام. فكّرت وورث،
وجلست لتكتب مذكّراتها، وأرسلتها لكوتس كي تستشيرها في التفاصيل الطبية، لأن كوتس
كانت قابلة هي نفسها فيما مضى، وتملك من الخبرة ما جعلها مستشارة المسلسل الطبية
فيما بعد.
يحكي
"استدعوا القابلة" عن حياة "جنيفير لي" أو "جيني"
التي جاءت من لندن المرفّهة لتعمل قابلة في شرق لندن، حيث حي "بوبلر"
الفقير جدًا. صُدمت "جيني" عند البداية من الفقر وسوء الأحوال، لكنها
صممت على إكمال مسيرتها في العمل لتحسين الأوضاع الصحية للأمهات وأطفالهن. يمضي
المسلسل بعد ذلك ليتجاوز مذكرات "جيني"، ويستكمل في الموسم الرابع حيوات
أصدقائها وبقية الراهبات في دير "نوناتس هاوس" الذي يضمهن، والتابع
للكنيسة لكن المستقلّ عنها ماديًا، ويحصل على تمويله من المحسنين وجزئيًا من
الحكومة.
أشاهد المسلسل
عندما أحتاج لجرعة من "التطييب" أو "الطبطبة"، للإحساس بأن ما
زال هناك خير في هذه الدنيا حتى لو في مسلسل تلفزيوني تشاهده النساء
و"تتشحتف" بالبكاء. بالمناسبة، عرفت أن الموسم الأول اجتذب حوالي 10
مليون مشاهد في بريطانيا وحدها، ليغلب بذلك مسلسل "داونتن آبي Downton
Abbey"
من إنتاج البي بي سي أيضًا، ويصبح أوسع المسلسلات مشاهدة في الوقت الحاضر. أذكر
هذه المعلومة لأؤكد لنفسي أنه ليس دراما "للسيدات اللاتي لا يجدن ما
يشغلهن" كما يوحي لي جانبي الموسوس من شخصيتي، وأذكّره بأن 10 ملايين رجل
وامرأة أفرغوا ساعة من وقتهم كل أسبوع لمشاهدته، لأنهم يستمتعون حقًا به. به
الكثير من الرقة والإنسانية ومراعاة الهشاشة العاطفية. أذكر أن في أحد حلقاته
تعرّضت الممرضة جيني لهزة عاطفية قوية أتبعت موت حبيب كانت مرتبطة به، فأرسلوها
لدار استشفاء ورعاية صحية لـ"كل الوقت الذي تحتاجه"، ولم يستعجلوها في
الرجوع، ولم يخبروها بأن "الحياة تمضي والانغماس في العمل هو الوسيلة الأفضل لتخطّي
مشاعر الفقدان"، كما نقول نحن. أخذوا مكانها في الورديات الليلية والنهارية،
وطالبوا بالحصول على ممرضة/قابلة جديدة كي تساعدهم. لم يكلفهم الأمر شيئًا، فإظهار
التعاطف الإنساني لا يُدفع مقابله المال.
في حلقة أخرى،
وُلد طفل كان قد توفّى داخل بيته الدافئ، وشعرت به الأم لكن حدث ما جعلها مرتبكة
بصدد الفِعل الواجب اتباعه. عندما وجدته القابلتان على هذه الحالة، لفّوه في فوطة
دافئة وخرجت به إحداهن للأب، ووضعته جانبًا، واستغرقتا في البكاء للحظات. جاءت أحدث
الممرضات انضمامًا لهنّ، والمُشاع عنها أنها بلا قلب، ولما رأت إحداهن هكذا لم
تُهرع لرعاية الأم الوالدة، بل اهتمت بداية بالقابلة الحزينة، وبالأب منفطر القلب،
بأن أعدّت لهم جميعًا أكوابًا ساخنة من الشاي، وسيلة البريطانيين في إظهار التعاطف
والاهتمام، كما أشارت جوان رولينج من قبل**. لاحقًا في نفس الحلقة، عندما انتهت
أذاعت البي بي سي – منتجة المسلسل – في تتر النهاية عن تزويد الأمهات بمعلومات حول
الأجنّة المتوفين، وكيفية تجنب ذلك، وطرق مساعدة من مرّت منهن بهذه التجربة، وذلك
في موقع البي بي سي نفسه، وعبر "رسالة مسجّلة" من رقم مجاني تتصل به من
أي مكان في بريطانيا، ليخبرك عن المعلومات الواجب معرفتها. هنا، لم يظهر فقط
اهتمام المسلسل "التخيّلي" بالأم وجنينها المتوفي، لأن هذا مجرد مسلسل
ولا بد من "تحسين صورة بريطانيا بالخارج" أو "غرس الإمبريالية
الثقافية في أذهان غير البريطانيين" أو "الترويج السياحي لإنجلترا
باعتبارها تعامل مرضاها ومواطنيها جيدًا"، بل ظهر الاهتمام الحقيقي غير
المصطنع بالمواطنين، عبر تجشيم أنفسهم العناء بالبحث وكتابة المعلومات على الموقع
وفي الرسالة المسجّلة وإتاحتها للجمهور في وقت إذاعة تلك الحلقة تحديدًا.
بمناسبة الحديث عن
"المعاملة الممتازة للمواطنين"، يظهر عبر المسلسل في مختلف حلقاته
الاهتمام الجيّد بالسيدات والأطفال. فهناك مثلاً السيدة المتشردة التي كانت تطارد
الأمهات حديثات الولادة لتحمل أبنائهن فقط، وكنّ يهربن منها وينهرنها، فزارتها
الممرضة واكتشفت أنها تعيش في مرآب مليء بالقذارة، والسيّدة نفسها ليست آية في
النظافة، فأدرجتها – بعد عناء معها – في نظام حكوميّ يرعى من بلا دخل، وأعطتها
الحكومة غرفة نظيفة بحمام مشترك، وملابس نظيفة، وفراش خالٍ من القمل، ورعاية صحية
مجانية، ودخل شهري يكفيها. في حلقة أخرى، تتجاهل أمٌ أطفالها وتتركهم جوعى باليوم
واليومين كل مرة تخرج فيها لأنها "يجب أن تفعل ما يبقيها سعيدة" كما
أخبرت أكبر أطفالها الذي عيّنته رجل المنزل، فتعرف الشرطة بذلك، وتأخذهم منها،
وتحاكمها بتهمة التجاهل والإهمال، وترسلهم لعائلة بديلة في أستراليا، واعدةّ إياهم
"بشمس مشرقة، وسماء بلا سُحب، وجوّ أدفأ"، وتلك الكلمات موحية جدًا، لو
تذكرنا أنهم كانوا يعيشون في الظلام لقطع الكهرباء عنهم، وفي البرد لعدم وجود
تدفئة في الغرفة التي كانوا يعيشون فيها جميعًا، والسماء المحجوبة بالضباب التي
تميّز لندن.
اعتقد، وربما صدق
حدسي، أنهم لم يذكروا تلك التفاصيل "مخصوص" كي يحسّنوا من صورة بريطانيا
بالخارج. فالمسلسل مُنشأ أصلاً للجمهور البريطاني، ولم يتوقعوا نجاحه ولا تصديره
خارجًا، بل لم يُنشئوا منه أكثر من الموسم الأول، في انتظار معرفة ردّ فعل
الجمهور. لا أعرف الكثير عن بريطانيا، لكني لم أسمعها تُذكر بسوء كثيرًا، وليست
مثل بلاد أصبحت أضحوكة العالم، وذِكرها في الأخبار دائمًا بالتنكيت والتبكيت. حتى
في تلك البلاد، تعاني مسلسلاتها من سوء معاملة رهيب، خاصة للنساء والأطفال، ويذكر
أصحاب الضمائر الصاحية حوادث رأوا فيها ضربًا أو صفعًا أو زعيق في وجه أطفال صغار،
تحدث أمامهم.
شكرًا للبي بي سي
على مسلسلاتها واهتمامها بالجمهور، وشكرًا لجنيفر وورث على تفكيرها في الكتابة،
ولكل الممثلات الرائعات على تأدية أدوار تفوقن فيها جدًا، حتى أحببت المسلسل وأصبحت
انتظره بشغف.
تحية من القلب J
______________________
* يقول لسان العرب: والقابِلَةُ من النساء معروفةٌ. يقال: قَبِلَتِ القابلةُ المرأةَ تَقْبَلُها قِبالَةً، إذا قَبِلَتِ الوَلَدَ، أي تلقَّته عند الولادة.
* يقول لسان العرب: والقابِلَةُ من النساء معروفةٌ. يقال: قَبِلَتِ القابلةُ المرأةَ تَقْبَلُها قِبالَةً، إذا قَبِلَتِ الوَلَدَ، أي تلقَّته عند الولادة.
** ذكرت جوان كي.
رولينج في إحدى مقابلاتها أنها كانت تعمل في مؤسسة لرعاية الحالات الإنسانية،
وأنها كانت تكتب شيئًا ما على الآلة الكاتبة حين سمعت صرخة قوية، ونادتها رئيستها
في العمل، وأشارت لها آمرة أن تعدّ فنجاناً من الشاي على الفور. كان يجلس أمام
الرئيسة رجل أفريقي هارب من الديكتاتورية في بلده، وقد سمع توًا خبر اعتقال
السلطات لوالدته ثم قتلها لأنه يرفض تسليم نفسه. لاحقًا، في إحدى رواياتها من
سلسلة "هاري بوتر"، يجلس الثلاثة: هاري وهيرمايني ورون، ويتحدث هاري عن
شيء مؤلم جدًا، فيقترح رون أن يعدّ كوبًا من الشاي، قائلاً بعد نظرة لائمة من
هيرمايني إنه "يساعد في الأزمات، كما تقول أمي دائمًا".
نُشر في نون:
http://nooun.net/article/1724/
2 comments:
عجبني كلامك يا روز
متشكرة ليكي أوي يا عبير، تسلمي :))
Post a Comment