Sunday, June 5, 2016

يا عندليب قول شكوتك.. كتم الغُنا هو اللي هيموّتك*

ما بين المواقع الرافضة لموضوع مثير للجدل جدًا، وهو التخلّي عن ارتداء غطاء الرأس (الحجاب)، والمعلّقة على هذه القصة بكل عبارات التهويل والمبالغة "يا لهول ما سيلحقها من عقاب الله!"، وما بين التدوينات والمقالات المكتوبة بالإنجليزية لفتيات مسلمات -سواء كُنّ من أصول عربية أم لا- قررن التخلي عنه وهن في بلاد غير مسلمة، وذلك حماية لهنّ من الاضطهاد الديني أو التمييز العنصري، ورغبتهنّ في الاندماج مع المجتمع. ما بين هذا وذاك، وبين المقالات العربية التي عرضت -مجرد عرض- قصصًا لفتيات قررن التخلي عنه بإرادتهنّ، يتيه الباحث عن نظرة متعقلة للموضوع.

لماذا التخلّي عن الحجاب تحديدًا؟ لأنه موضوع خاضع لجدل شديد، حيث إننا في مجتمعات تربط التدين بالمظهر الخارجي، وتحب أن تحشر أنوف الجميع في كل خصوصيات بعضهم بعض. لماذا الحديث عنه؟ لأن كثيرات تخشين التخلّي عنه (أو ارتداءه في حالات أخرى) مخافة كلام الناس والأهل والزوج، وأصدقاء النادي، وطنط اعتماد قاطنة الدور الرابع، ونظرات البوّاب وزوجة البوّاب، والصبي حمدي الذي يأتي لجمع القمامة كل صباح. أما لو كانت الفتاة مستقلة وتقطن وحدها، فالاعتبارات أكبر، والانتقادات أضخم، والتبكيت أشد ضراوة.

لماذا لا تتحدث الفتيات عن ضرورة امتلاكهنّ لرأيهنّ الخاص؟ سواء بارتداء ما يعجبهن من ثياب، اختيار الجامعات على الهوى وليس على المجموع، اختيار من يقضين معه الساعتين القادمتين، ناهيك بالعمر كله.. لماذا تخشى النساء الحديث عما يدور بعقولهن؟

تقول "كاثرين كالفريت" في مقالها بمجلة "أوبرا" ذائعة الصيت: 
"لم يكن التعبير عما أشعر به في أغلب الأوقات خيارًا مسموحًا لي حتى بالتفكير فيه. كان الأمر بمثابة القفز من علٍ دون مظلة، وهو ما أخافني كثيرًا.
يعلم الرب أن أهلي لم يربّوني على الحديث بحرية: كان الصمت من ذهب للأطفال، وبعيار 24 قيراطًا في منزلنا. اعتُبر جزءًا من ابتهال الفتيات المهذبات، مرتبطًا بقواعد "كيف تصبحين لطيفة"، فالفتيات اللطيفات لا يجادلن، لا يرددن أو ينتقدن أو يعلو صوتهنّ، ويقلن شكرًا ومن فضلك، لكن لا يقلن أبدًا أي شيء قد يجرح شعور الآخرين".(1)

تربّى عدد غير قليل من الفتيات على هذه القواعد، مدموجة في مجتمعنا بصيغ التدين السطحي أو الزائف، فترى الأب يكذب مِرارًا في سماعة التليفون لكنه ينهر البنت إذا قالت رأيها في أي الفريقين تريد الالتحاق في الثانوية: العلمي أم الأدبي.. وهكذا، عندما يصل الأمر لقرارات مصيرية مثل ارتداء الحجاب أو خلعه، فهنّ يجبنّ تمامًا، أو يتخذن الخيار الأصعب والأكثر موافقة لعقولهن وقلوبهن: اتباع ما يفكّرن فيه، والتعبير عنه.

يذكر موقع الويكي هاو تحت عنوان "كيفية التعبير عن نفسك" الخطوات التالية: (5)
أولاً: لا تقلق بشأن ما يعلق به الآخرون عما تريد قوله، أو كيفية رد فعلهم تجاهك. اعلم دائمًا أن لك الحق في التفكير والتعبير كما تشاء.
ثانيًا: لا تدع السلوكيات العدوانية تخيفك، واحتفظ بهدوئك، ولا تصرخ في وجه من تحادثه بل تكلّم بوضوح ونبرات صوت معتدلة، فبهذا يصل صوتك جيدًا.
وأخيرًا: تدرّب على الكلام والتعبير عن رأيك مع أصدقائك وعائلتك، لأنهم أول ناس المفروض أن تتحدث معهم. آمِن بنفسك كثيرًا وبقدرتك على امتلاك رأي حر وعلى التعبير عنه.

تبدو الخطوات سهلة، أليس كذلك؟ فقط استجماع للشجاعة وترتيب الحجج واستعراضها بعين عقلك قبل نطقك بها. لكن النطق نفسه ليس سهلاً. أذكر مقالاً قرأته لـ"أليك فيشر"، كاتب بريطاني حديث التخرج، كتب لأول مرة منذ شهر تقريبًا على الـ"هافنجتون بوست" تدوينة يقول فيها: "نعم، لقد تعرّضت لاغتصاب في سنتي الأخيرة في الجامعة"، كان يقول إنه شعر بالخزي والذنب جرّاء تلك الواقعة، وأنه مسؤول ولو جزئيًا عن هذا الأمر: ألم يسكر ويفقد الوعي؟ لذلك لم يبلّغ المسؤولين أو الشرطة أو حتى أسر الكلية المهتمة بشؤون الطلبة. لم يتحدث حتى جاءه صحفي ليُشركه في موضوع صحفي عن العنف الجنسي في الجامعات، فوجد نفسه يرتجف وركبه تهتز بشدة، ورأسه يكاد ينفجر، حتى استجمع شجاعته وكشف عما يخبئه منذ ثلاث سنوات: "أنا تعرّضت للاغتصاب". لم يذكر ردّ فِعل المستمع، لكنه شعر بالقوة وأنه يمكنه امتلاك مصيره، حتى لو وصمه المجتمع بأنه "الرجل الذي اغتُصب". (2)

في جامعة ديوك الأمريكية، في شهر أبريل الماضي، والذي يُعتبر في أمريكا شهر الحديث عن الانتهاك الجنسي، والتوعية به وبما يمكن اتباعه من أمور لتجنبه ومنعه، أطلقت أسرة طلابية نسائية اسمها "ديوك ديفل ديش" حملة عبر الفيسبوك عنوانها "اجعلي صوتك مسموعًا". في هذه الحملة، صوّرن فتيات يحملن لافتات، بعضهن حملنها أمام وجوههن فلم نرهن، بينما الأخريات حملنها عاليًا ونظرن بتصميم للكاميرا. كُتب على بعض هذه اللافتات: (3)

 
"سنلعب معًا لعبة الآن، لكن عِديني أولاً أنك لن تخبري أمكِ أو أباكِ أبدًا عنها، اتفقنا؟"، كنتُ في الخامسة، وكان هو من أفراد العائلة.
 

"إذا كان الأمر اغتصابًا حقًا، لماذا لم تقطعي علاقتكِ به؟"، سألت نفسي نصف السؤال الأخير يوميًا، لأكثر من سنة.
 

"أنتِ لا تعرفين ما هو الاغتصاب الحقيقي".. كذا كان تعليق صديقتي المفضلة عندما أخبرتها أني تعرضت للاعتداء الجنسي.
 
"استرخي، لم يعتبر الأمر عمليًا اعتداءً إذا كان عشيقك هو من قام به. هل أنتِ متأكدة أنكِ لم تستمعي بالأمر ولو قليلاً؟".
 

"آه يا حلوتي، إن الاغتصاب كلمة قاسية حقًا. بل كان الأمر مجرد سوء تفاهم." – مُعالجي (السابق).
(لقد كنتُ فاقدة للوعي...).

في مصر، يُعدّ الحديث معيبًا وصادمًا لو دار حول التحرّش الجنسي، سواء في الشارع أو المواصلات أو العمل أو حتى في البيت. في حكاية لصديقة، قالت أمامي وأمام أختها إنها أُجبرت على الجلوس في غرفة واحدة مع قريبتها التي كانت تغيّر ملابسها، وأن قريبتها الأكبر منها في السنّ تلك، منعتها من مغادرة الغرفة، وبدأت في ارتداء ملابسها الداخلية أمامها. ذكرت صديقتي حرجها البالغ وكيف أنها ركزّت عينيها على السجادة الباهتة، بينما تختنق بإحساس أن ذلك "خطأ". كدت أجيبها بأن هذا يُعدّ "تحرشًا جنسيًا" بها، حتى عاجلتها أختها بالسخرية منها قائلة إنها كبيرة، وإن هذا خطأها، وإنها كان لا بدّ أن تغادر الغرفة، و... و... و... لم يكن خطأها بالمناسبة، وهي ضحية، وكان من الأصوب الصراخ مثلاُ. 

هناك تجارب عديدة، منها ما يبدأ عند أول عتبة السلم، مثل التحديق بالنظر واستكشاف الملابس وما تحت الملابس بالنظر من الأمام والخلف، وصولاً للاغتصاب أو انتهاك العرض في أقسام ومراكز الشرطة والسجون، مرورًا بالتلميحات الجنسية أو معاينة الجسد في أماكن العمل، أو حتى معاينة أماكن معينة من الجسد لدى زيارة القريبات لفتاة في سن الزواج (وكل السنوات مناسبة للزواج، لأنهن يؤمنّ أن الفتاة مزرعة تفريخ).

كل هذا الألم النفسي، كل تلك المعاناة والتفكير في الشذوذ عن المجموع، سواء بالتفكير في اتخاذ منظر خارجي مختلف عن السابق بالملابس أو قصة الشعر أو تثبيت الأقراط، أو كان الأمر يتعلق بالحديث عن انتهاك في الحقوق حدث مسبقًا.. كل هذا يجعل من الصعب جدًا على أي فتاة أن تعبّر عن رأيها حقًا. لذلك، سيظل "ورا الوشوش حكايات". وراء المظهر المحتشم رغبة عنيفة في الرقص في شوارع آمنة، رغبة في ارتداء فساتين دون اضطرار للأكمام والكارديجان في هذا الحرّ. وراء النظر للأمام بصرامة والمشية القوية رغبة في التطلع للمحال والسماء والابتسام للأطفال، والمشي بحرية أكثر دون اضطرار للهرولة أو النظر للخلف لنرى هل يتبعنا أحد أم لا. وراء الاضطرار لاستخدام المواصلات العامة والسماعات في الأذنين والكوع في بطن من يلمسنا من الخلف حتى لو اعتذر، الرغبة في الجلوس براحتنا تمامًا وإمالة الرأس من الشباك لعدّ السحاب أو تطليع اللسان لعساكر المرور.

لكن الأمر لن يستمر على هذا السوء، حتمًا. فهناك مبادرة "خريطة التحرّش"(4) التي توفّر دعمًا نفسيًا وقانونيًا عبر شراكتها مع منظمات حقوقية مثل "مركز النديم" و"مركز دعم المرأة" و"نظرة للدراسات النسوية" وغيرها من الجمعيات والمحامين والحقوقيين. كما توفر المبادرة خطًا ساخنًا لمعرفة كيفية التصرف في حالة حدوث تحرّش، وبها صفحة عن المراكز التي تقدّم تدريبًا على الدفاع عن النفس للمرأة. 

هناك حتمًا حكاية تستحق أن تُروى، شيئًا يستحق أن يُعاش، أن نرفع رأسنا ونصوّب عينينا في أعين من ينظرون إلينا باتهام أو بأمر بالسكوت أو الانضمام للقطيع خوفًا من كلام الناس. إنه احترام العقل، احترام الرغبة في التعبير عن الفِكر والأفكار الحرّة، رغبة في التعبير عن الذات والمشاعر. واحترام الجسد، أن يكون له صوته المسموع كي يلفت الانتباه أن شيئًا ما خطأ وقع، وأننا لا يجب أن نسكت عنه، حتى لو كان الأهل والأصدقاء والشريك والشرطة والقانون، في غير صفّنا.

____________________________________
المصادر:
(1)
(2)
(5)
أضغط هنا

* العنوان مقتبس من قصيدة لصلاح جاهين.
نُشر المقال على موقع نون، هنا

1 comment:

Lobna Ahmed Nour said...

المقال ده عظيم.
تسلم إيد اللي كتبت