"قبل ذلك، تخيّلت الشكّ بالنفس كوحش يمتص الحياة ذاتها، لكني الآن أدرك أنه مخلوق خائف وغاضب وتائه، يصرخ طلبًا للمساعدة في السرّ".. ميليسا إنج.
سارة:
أنا بحمد ربنا إن القعدة هنا هدّتني شوية وبعدتني عن الأذى اللي بشوفه في الشارع وعن كل اللي بيفكرني بأيام الثورة. أنا كويسة.. مبعانيش بشكل ظاهر أو واضح من حاجة، لكن مريحني جدًا إني أمشي مع تيار الزمن كده.. محاولة للطفو.. عمومًا.. سؤالك فيه صعوبة جاية من الحكي بيصعب معايا يوم ورا التاني، زائد مريحني عدم التركيز مع نفسي. بتوحد مع الحالات والرضا.. وأبص للنعم اللي عندي وخلاص.
طبعًا بتمنى وأطلب حاجات، لكن الحمد لله قلّت وبتقِل وأنا عايزاها تفضل تقل كده. يعني.. فالانتصارات الصغيرة دي عندي منها كتير، ممكن لا تستحق الذكر.. مثلاً قدرتي على إدارة بيت، وكان عندي شك في ده.. لأن مش مهم أد إيه الناس شايفة إنك ممكن تعمل إيه طالما إنت مش شايف نفسك بتعمله.
كمان من الانتصارات الصغيرة إثباتي لنفسي قبل أي حد إني أقدر أتحمل المسؤولية. في وقت حبيت فيه شخص وحبني. كنا بنظن إننا نشبه بعض جدًا لدرجة إن عندنا نفس العيوب. الفرق إنه كان شايف إن ده مش هيخلينا ننجح، لمجرد إن والدته قالتله كده. وأنا كنت شايفة العكس. واتصرفنا بناءً على اعتقادنا.. أنا نزلت شغل بعقد والتزام بعد الشغل الفري لانسر والحرية النسبية. ورحت قعدت مع جدو المريض شهر عشان أثبت إني مش زي ما بيقول (بهرب من المسؤولية ولا أستطيع تحمل المسؤولية، ولا يمكنني بالتالي مساندته وقت الشدة) واشتغلت سنة كاملة غاية في الانتظام، ونجحت في إدارة بيت جدو. هو عرف بنات تانية، وعجبه منطق مامته واستقبله كأنه نبوءة إننا هنتعس بعضنا. وحاول معايا نفضل مع بعض بلا التزام، وما أحلاها حياة الحرية! كانت فترة تخبط كبيرة أوي، وألم وبهدلة كبيرة برضو.
في الآخر.. وسط الألم والأذى والقرارات الغلط.. أخدت من العمق قرار سليم. إني هستمر في حياتي بالشكل اللي أظنه أو اتعلمت إنه يرضي ربنا. ووسط كل العك كنت دايمًا بقول بيقين "والله أنا عارفة ربنا هيكرمني آخر كرم".. كنت متعلقة بالأمل في الله زي ما الغريق متعلق بحتة خشب.. مفيش دلائل ولا سراب قدامي بيقول إن فيه حاجة حلوة هتحصل.. وكنت بقول كده.. وقد كان.
اتقدملي زوجي الحالي الجميل..الجنتلمان في نفسه وفي تعامله، مكنتش واثقة من اللي بيحصل.. بس القرار السليم اللي قررته من العمق كان اتفعّل خلاص، عملت كل اللي عليّ. كلمت الولد قبل ما أتخطب وقبل ما أتزوج أقوله فيه فرصة وبتقل. ثبت مكانه وقالي توكلي على الله.. في حين في نفس الوقت كان بيحاول نفضل نتكلم. ربنا سخر حتى الولد ده.. واستجاب إني أبعد عن كل الوجع ده الحمد لله. وأنا كنت متأكدة والله من كرمه اللا منتهي. اللي هفضل مغمورة بيه.
لو شفتيني في عز ضعفي –والحمد لله ع الستر- عمرك ما هتصدقي اللي بقيت فيه.
من أكبر النعم عليّ.. قدرتي على الفرح مع زوجي.. ع الرضا بكل لحظة.. على تذوق اللذة والدهشة في الحلال.. اللذة البريئة التي لا يعقبها أي إحساس بالذنب، أو أي إحساس بألم أو وجع. والتي لا تدفعك لأذى آخرين بالتأكيد لا يستحقون أن تؤذيهم.
من الانتصارات الصغيرة..قدرتي على العفو عن أذى الماضي الذي قد يكون قد سببه آخرون أحببتهم.. أصدقاء أو أهل أو أحبة.
من الانتصارات الصغيرة ما حققته في المدرسة في العام الذي درّست فيه.. عندما أدخلت طلابي المعمل وجعلت ذلك تقليدًا، وعندما كنت أجعلهم يشاهدون روعة ما يدرسون.
كنت قد مرضت وأردت الاستقالة. بكاء طالباتي وحبهم كان مدهشًا ومفاجئًا، خاطبوا المديرة، أحضروا أولياء أمورهم.. كانت المديرة مستعدة أن تنزل الفصول لي حيث أجلس، ولا أترك الطلبة. كان شيئًا مدهشًا لم أتوقعه، وقابلته بامتنان شديد جدًا.. ومن الداخل علمت أنني نجحت في إثباتي -أستطيع تحمل المسؤولية، وأملك نعمة أن أكون محبوبة- الحمد لله!
أعلم أنني ربما أتذكر انتصارات أستطيع روايتها بشكل متماسك.
وممتنة بأصدقاء مثلك يا عزيزتي.
من ضمن الانتصارات الصغيرة قدرتنا على صنع ذكريات جميلة فعلاً. وهي قوام حكاية صداقتنا الآن.. مثل أيام مجموعة تبادل الكتب والأفلام (لا أذكر اسمها الآن).
***
منى:
قد يبدو انتصاري الصغير تافهًا حينما أحكي عنه، ولكنه كان من الأشياء التي أسعدتني جدًا.. حينما لم تعد روحي قادرة على احتمال الواقع أكثر من هذا، وأصبح كل خبر جديد يقتل جزءًا جديدًا مني، قررت أن أتوقف عن متابعة كل شيء، ووجدت ملاذي في المطبخ، حيث أنا من أقرر ماذا أفعل ومتى وكيف.. أنا أشكل واقعي الصغير بيدي وأتغلب على كل عقبة تواجهني فيه وأنتصر عليها، لا انكسارات متكررة من واقع لا سيطرة لي عليه، ولا إحباط لا ينتهي في مواجهة أفكار مشوهة عفنة عششت في أدمغة فات أوان إصلاحها! في المطبخ I am the Master of my own world.. لذلك حينما قررت أن أصنع عجينة الباف باستري (وهي واحدة من أصعب العجائن التي يمكن عملها والغالبية تشتريها جاهزة لأنها تحتاج إلى مجهود كبير ووقت طويل جدًا، لعملها وقد تفشل في النهاية بعد كل هذا) كنت أعلم أنني لن أستطيع عملها بسهولة.
ابن عمتي الشيف أخبرني أنني لن أستطيع فعلها، فهم يُعدونها بتجهيزات خاصة في المطابخ لا تتوافر في مطبخ منزلي عادي، صديقاتي أخبرنني أنها صعبة فعلاً وأشتريها جاهزة أسهل.. وبعد المحاولة الفاشلة رقم أربعة، كدت أستسلم فعلاً.. وقررت أن هذا يكفي، ولكن هناك جزءًا صغيرًا من روحي كان يشعر بإحباط شنيع، ها هي هزيمة أخرى في المكان الوحيد الذي أشعر بالانتصار فيه، لذلك قلت كأي مدمن يحترم نفسه.. مرة واحدة أخرى، مرة واحدة فقط وبعدها سأتوقف.. ونجحت! في أكثر مرة توقعت فيها الفشل، بل قللت الكمية التي صنعتها جدًا لأني توقعت أن تفشل كالعادة هي المرة التي نجحت فيها.. يومها كنت أتنطط من السعادة كالقرود واتصلت بابن عمتي مخرجة لساني له في الهاتف أنني فعلتها.. وصنعت فرحًا على الفيسبوك يومها إنني نجحت أخيرًا.
وفعلتها مرة ثانية في اليوم التالي ونجحت أيضًا أكثر من أول مرة.. قد يبدو هذا أمرًا تافهًا، صنعت عجينة ونجحت.. ما الأمر الكبير في الموضوع؟! ولكن لم يبد كذلك بالنسبة إليّ، حينما يكون أكثر شيء، وربما الشيء الوحيد الباقي، الذي تستمد شعورك بالسعادة في مواجهة إحباطات الواقع منه، هو مكان آخر للإحباط يكون هذا موجعًا جدًا.. لذلك حينما صنعت عجينة الباف باستري كان هذا بمثابة انتصار آخر لعالمي الذي اخترته في مواجهة العالم الذي فشلت في تغييره، وأنني ما زلت The master of my own world.
****
"في بعض الأحيان تضربك الحياة بحجر ثقيل على رأسك، لا تفقد الإيمان حينها".. ستيف جوبز.
_________________
نُشر في نون
http://nooun.net/article/1289/