Sunday, January 4, 2015

لأننا يجب أن ندفئ بوصلنا برد الأمسية


مفتتح:
ربما يجب أن اتعلم تهدئة تواثب قلبي كلما رأيت اسمه على الشاشة، يكتب أو يرسل لي شيئًا، أو يتحدث عن رفاق لنا اكفهرّت الدنيا في وجوههم، لكنهم حتمًا سيصبحون بخير.
متن:
عند لقائي بـ"ميم" فوجئت بنحوله. كنت أعرفه منذ زمن ونتبادل الرسائل، لكن لظروف سفري وانشغاله لم نر بعضنا إلا قريبًا جدًا. زمان، كانت حكاية أن نتعارف عبر الإنترنت – خاصة عبر منتدى روايات – ونتحادث مطوّلاً جدًا ونكتب ردودًا تقارب من صفحتي A4 بفصحى سليمة تُعنى بالتشكيل والإعراب، ثم يقترح أحدنا بلمحة انبساطية مفاجئة أن نتقابل، فنتفق على معرض الكتاب ومكان محدد، فقط لتذهب وتجد مجموعة من الناس تقف متقاربة لكن يبدو عليهم كلهم الخجل ولا يتحادثون أبعد من تبادل الأسماء – الحقيقية العادية والعجيبة المخترَعة على المنتدى – ثم ينتظرون فرج ربنا. لولا مجهودات حقيقية من أفراد كُثر، منهم دعاء حسين مثلاً، أن تأخذني من يدي وتعرّفني بالآخرين ثم تصطحبني لدور نشر جديدة، وتحادثني في الطريق عن فلان وفلانة، وتقول لي عَرَضًا "ابقي كلميهم"، وطَلعة تامر فتحي الذي يجمعنا كأفراخ البط ونمشي وراءه حتى سور الأزبكية ليعلّمنا – للمرة الأولى تقريبًا – "التقليب": كتابًا وراء الآخر، بحثًا عن كنوز منسية. أقول لولا مجهودات مثل هذه لبقيت صامتة للأبد، ربما.
الآن انتهى عهد التعارف الصامت بالنسبة لي، ربما يجدده مراسلات مطوّلة مثل هذه. أقول فاجأني ميم بنحوله فابتلعت تعليقي لأن أشياءً كهذه لا تُقال. دخلنا محلاً يبيع زينة العيد فاشترينا لبعضنا – ولم يقل أحدنا للآخر أن "هذه" له – تذكارات بسيطة، كان نصيبي منها كرة ثلج لطيفة، تحتوي على بيت يوحي بالألفة والدفء ومشروب الكاكاو بالقرفة وترحيب لا نهائي بكل الضيوف، أقلبه وأعدله فتتساقط ثلوجه لطيفة تعطي أملاً بأن نرى ثلوجًا حقيقية في وقت ما.
جلسنا. كان يحكي بسرعة وتصميم مثل فَرَس رامت هدفًا فوصلت إليه وأصابته. حكى عن صفي النيران اللذان عبر وسطهما خطفًا وهو يحمي صديقة له ليصل لثانية فيأخذهما لبرّ الأمان ويقف مذهولاً مما حدث. عن تجربة اعتقال وأمل كاذب أصرّوا على جعله واهمًا ليكسروا تطلعًا له في قلبه، ويصيبوه "على خِوانة". عن سائل أبيض مصنوع في الأصل كدواء للحموضة لكنه أغرق بذلته رغبة منه في حمايته من مستنشق يصيب متنفِسَّه بالاختناق – حكى عن مستنشق آخر أحس به في العاشرة مساء الثلاثاء، يصيب بالإغماء وانسحاب الأمل، الرواية التي تطابقت حتى الآن مع ثلاث مرويات من أشخاص ثقة -. حكى بسرعة كأنما يخشى أن يطير الكلام منه، حكى كأنه يرسم نفسه في الحيّز المكاني والزماني بكلماته، حكى لعله يخشى النسيان، حكى ليؤكد أننا "لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا" (1). تابع الحكي ولم يتوقف سوى لابتلاع ريقه، عافت نفسه الأكل والشراب حتى برد ما بطبقه وكوبه، نفى عن نفسه البطولة، ترفّع عن "الإخبار" ببطولاته لأحد، أكّد أنه يحتفظ لنفسه بكل التفاصيل.

ألمح أنا أنها تطل برأسها من وقت للآخر، وأنه حان وقت التخفف من ثقلها. استمع له بصمت وإن صاحبته هزات رأس وارتجافة ذراعين نسيا اصطحاب المعطف من البيت، أريده أن يحكي أكثر. للتخفف طعمه الخاص، الذي قد يصاحبه مرارة، أو ارتياح.
في وقت لاحق من نفس الأسبوع أقابل ولدًا صارم الملامح قليل الابتسام، لكن عندما تعجبه كلمة أو لحن يسمعه أو سطر يلحظه تنفرج منحوتات وجهه في ابتسامة آسرة. لم أره يومًا يقهقه، فأستنتج أن ربما للضحك عاليًا علاقة بخفة القلب، وهو يتردد على المحاكم يوميًا، بعثرت السنون الأربع الأخيرة أصدقاءه بين تحت الأرض ومصاحبين للسماء السادسة، أو يرسلون له ضحكات من خلف شَبَك بوجوه منيرة علتها رؤوس حليقة جدًا فأعطتهم عمرًا أصغر بكثير من أعمار الأجيال الثقيلة التي يحملونها، وجوه صبية هازئة تبتسم بلطف للصِحاب وتهزأ بقضاة أصبح لأصواتهم جعير يفوقه النهيق أهمية وحضورًا.
يتحدث قليلاً ويدعوني للكلام فارتبك. رغم تعوّدي الحديث عن نفسي لكني أردت سماعه أكثر. يسأل كم نسخة صدرت من كتابي فلا أعرف، يؤنبني لأنه "مولودي الأول" ويجب أن أهتم به أكثر من ذلك. يهتم بمعرفة المزيد عن عالمي، فأحكي له عن نظريتي: في السنوات الأربع الأخيرة هاجمتنا أمور كِبار فانشغلنا في أغلب الوقت بمعضلات مثل الحياة والموت، لذا يصير واجبًا علينا في أوقات "الهدنة الهادئة"(2) أن نتواصل: نذهب لأفراح بعضنا، نقيم حفلات أعياد ميلاد طفولية نلتهم فيها بفرح تورتات ملونة تحمل طيّات من الشوكولاتة والكريمة وقطع من البندق وعين الجمل – يسمّونه في لبنان بالجوز - ونغنّي "حيّوا أبو الفصاد"، نلتقي في مقاهٍ غالية ميزتها ألا يعرضون فيها الأرجيلة وبها حمّامات نظيفة، نسمع أن صديقًا لنا شخّص الطبيب كتلة في ركبته بأنها ورم حميد فنسعى حثيثًا للقائه لطمأنته وقضاء الوقت معه. مجرد "قضاء الوقت"، هذا يجعلنا آدميين أكثر. تقول د. هبة رؤوف أننا يجب أن نتلاقى "نتجمع ونطمن بعض ونطبطب على بعض، نحس إننا بنعمل حاجة مفيدة ولو صغيرة، زي ما بنقول بنزرع "فسيلة"(3)، فتؤكد لي أني لست مجنونة، وأن الوجود المادي حتمًا مهم.
عيناه عصيّتان على التفسير. أجيد أنا إلى حدٍ ما قراءة العيون: هذه مثقلة، هذه خائفة، هذه تنظر خِلسة فيظهر سوء نية صاحبها. عيناه مصمتتان لا تخبران بشيء. أخرج بتفسير قاله لي صديق عزيز: دفاعاته قوية، ولولا هذا لانهار مع كل الضربات القوية التي تلقاها، ولما قام ثانية. اتشاغل بمحاولة ابتلاع ما بكوبي ثم اكتشف إمكانية استجلاب الدفء بمحاوطته بكفيّ فأفعل. يبدي لُطفًا ملحوظًا فلا أملّ الابتسام حتى عند الصمت. هاجمنا سُكون سخيف في منتصف القعدة فحرثت عقلي بحثًا عن مواضيع ثم اكتشفت أن الأُنس بالصمت يفوق طيبة عنه بالحديث، أن السُكات وتحسّس الوصل الممتد بيننا كدِثار قطيفة يحنو علينا فنكتشف متانة مادته، يرخي ظهورنا في جلستنا ويجعلنا نبتسم أكثر.
اتساءل بيني وبيني قبل اللقاء فَرِحة بمقابلة "قامة عظيمة" مثله – يحادثه الصحفيون سؤالاً عن تفسيرات لمشاكل تحدث فيتطوع شارحًا، تذهلني قدرته اللغوية على التعبير عما يقصده بالضبط فأتذكر محاولتي بالساعات لإيجاد لفظة هاربة مني، وأندهش. يقول ردًا على تساؤلي إن على أحد أن يتحدث باسمنا وهو قد تطوع ولم يملّ – عن إمكانية تعليق ذراعي في ذراعه ونحن نمشي لوجهتنا، ثقة وأمان وطمان. اتخلى خجلاً عن التساؤل، وإن عرضت لنفسي مخرجًا: سأرسل له رسالة قبل لقائنا في المرة القادمة، اسأله عن تلك الإمكانية. اختبئ أنا وراء الكلمة المكتوبة كأنها ستجنبني إحراج السؤال والمواجهة. لا أفعل. اكتفي بسؤاله "ح نتقابل تاني قريب؟" فيصمت قليلاً ليقول "أكيد هنكررها" فـ "يشرق وجه القصيدة"(4).
خاتمة:
يحصل على توقيعي على كتابي الذي اندهش كون ثمنه جنيهين فقط فأعطى للبائع كل الفكة التي معه ضاحكًا. اكتشف اقتراب الميني باص الذي سيحملني للبيت فأودعه بـ"لهوجة" وأصعد، متحسرة لأن عُمر مصطفى قال يومًا في ديوانه "أسباب وجيهة للفرح": "مكنتش قادر تستنى يا الزمان حبة/تستنى مين / وإحنا المستعجلين / وإحنا اللي بنروّح / من غير معاد واضح / من غير وداع مُرضي" وأنا صممت منذ قراءته ألا أمشي دون وداع مرضي.
تصاحبني في المرواح تشكيلة تحمل طبطبات ربانية من الأغاني القديمة المفردة لمحمد منير على الدف، ثم تسجيل لمصطفى إبراهيم طيّب الله روحه، وأغنية لطيفة لفيروز، ثم تختتم بالسورة الأحب لقلبي: آل عمران، فأسمعها حتى الوصول.
_____________________
(1) آخر سطر في كتاب الراحلة د. رضوى عاشور "أثقل من رضوى"، سيرة ذاتية.
(2) كتبت مقالاً سابقًا على مدونتي عنوانه "في ذِكر الأيام الهادئة: عن محمود كمال" ووصفت أيامنا التالية لشهور الشتاء السابقة بالهدوء رغم ركض الجميع لمحاولة حلّ مشكلة اختفاء الرفاق من الحياة العادية وسلب حريتهم. سيظل التناقض بين الحالين مؤرّقًا لي وأكاد أحاول تصحيحه كلما طلعت سيرة المقالة. الآن يركض الجميع أيضًا، منهم من كان نزيلاً سابقًا وأصبح الآن حرًا، ولو بتعبير مجازي ضئيل، خلف رفاق آخرون سُلبت حريتهم، مما يؤكد أننا كالنمل كثيرون جدًا، وسنظل نُخرج رؤوسنا للسطح كلما اختفى منا بعضنا، وسنملأ الساحة، وستصير لنا، حتمًا.
(3) في مطلع كلمتها في مؤتمر لعرض كتاب "مسؤولية المثقف" للكاتب والباحث علي شريعتي. الرابط: أضغط هنا
(4) آخر بيت في قصيدة كتبها مريد لرضوى أثناء سفرها لأمريكا لدراسة الدكتوراه. يحاصرني البيت واستحضره في كل وقت، بمناسبة أو بدون.
______________
نُشر في نون
http://nooun.net/article/1466/
من أحب المقالات لقلبي :)

No comments: