لا أذكر رمضان
التسعينيات، حيث كنت صغيرة وكنا في السعودية، لا أقارب أو أصدقاء ولا برامج
تلفزيونية أو فوازير، فقط كان هناك "بابا فرحان" وهو مسلسل عرائس بحجم
الأشخاص البالغين وبعض الحيوانات أذكر منها بقرة طبخت مرة فطيرًا فاحترق منها،
فجلست تضع يدها على خدها وتقول "يا فضيحتك يا أمو الخير بين البقر!!"
لكن رمضان أول عقد
من الألفية كان مميزًا. أذكر بالتحديد رمضان واحدًا، كانت جدتي ما زالت معنا
وبقدرتها على التركيز والتذكر. منعتها الطبيبة من الصيام فجلست متألمة ترفض طعام
الغداء أو الإفطار الصباحي، وكان لزامًا على أمي وخالتي محايلتها كي تأكل وتشرب
المياه. كانت المياه أساسًا أصل المشكلة، حيث تسببت قلّتها في حدوث جلطة بالنصف
الأيسر من الدماغ أثرت على أشياء كثيرة جدًا.
كنا نشاهد التلفزيون،
أنا وجدتي، بينما أمي "تكركب" في المطبخ وتصنع طعامًا مخصوصًا لجدتي
وآخر لنا، وطبقًا ثالثًا ترسله لخالتي التي تقطن في الدور الذي يلينا مباشرة. أصبحت
مهمة ملاحظة تيتة من نصيبي متى عدت من الكلية، حيث كانت في الصباح من نصيب أمي.
أجلس بجوارها وأرفع صوت التلفزيون كي تسمع جيدًا – لم ينفع هذا الإجراء لأن سمعها
كان ضعيفًا جدًا ورفضت ارتداء السماعات التي وصفها لها الطبيب وتتعلل دائمًا بأن
بطارياتها خلصانة – وأتابع معها مسلسلاً أو اثنين. أذكر جيدًا مسلسل "حدائق
الشيطان" بتتره المميز بصوت علي الحجار. الحجار أصلاً له قصة معي. في المسلسل
أدّى جمال سليمان السوري أول أدواره باللهجة الصعيدية المصرية، وكان متقنًا جدًا. جلست
لأتابعه كله كي التقط له هفوة واحدة فلم أجد، فتحسّرت قليلاً لأني راهنت نفسي على زلـله.
في تلك التمثيلية أيضًا أدّى رياض الخولي دورًا على غير المعتاد منه، ضعيفًا
ومستكينًا، بل في أحد المشاهد ضُرب بقسوة من رجال جمال سليمان. أعجبتني المشاهد
ككل وإن لم اتذكر منه شيئًا الآن، لأن ذاكرتي أصبحت "تدلدق" كل شيء
تقريبًا.
نعود لعلي الحجار.
أصلاً اكتشفته وأنا بالكلية. لم أسمع منه شيئًا وأنا صغيرة لأن "الأغاني
حرام" وبالتالي شراء الشرائط حرام واقتناء كاسيت أصلاً حرام. كان كل شيء
بالنسبة لي جديدًا، بمجرد اقتناء كمبيوتر منزلي – للبيت كله، أينعم – وابتعاد أبوي
عن المنزل بضع ساعات زيادة كل يوم تكفل لي حرية وخصوصية لا يعرفها إلا من كانت
حياته "على المشاع" حتى بين الأقارب وأصدقاء العائلة غير الودودين.
اكتشفت علي وفيروز ومحمد منير، لكن علي وحده ظل رفيق أول "قصيدة في جواب
مكرمش" وأول عينين بنيتين صغيرتين وراء نظارة بدون إطار، لم تقولا شيئًا لكن
ظلّتا تلاحقاني، ولما تحدثت في النهاية مع صاحبهما قال "اتأخرتي يعني؟"
ظل علي يغني لي
"عارفة" حتى بعد انتهاء كل شيء وزيارتي الخاطفة للساقية ودموعي التي
كادت أن تخرج بشهقات عميقة مخنوقة وتفضح المكان كله. لم أعد لزيارتها بعد ذلك، ولا
رأيت عليًا. أذكر أول انبهاري بـ "شجرة فلفل تتجوز من شجرة توت"
واعتبرتها الحكمة الخالصة وأن بالتأكيد وراء الكلمات معنى ما، رغم أنها الآن قد
تبدو كلامًا فارغًا. هل تغادرنا السحرية عندما نكبر أم أن حكايات من صعدوا للسماء
وتركونا نشّفت القلب بدري؟
في رمضان ذلك
أيضًا تابعت "أسماء الله الحسنى" وتفسير معانيها لعمرو خالد. لا أستطيع
تحديد هل كان ذلك نفس الرمضان أم واحد آخر يليه؟ على كل حال، لا أحب عمرو خالد على
الإطلاق، وصوته يصيبني بتوتر رهيب ورغبة في ركل أرجل الكراسي. طبعًا كان قول مثل
ذلك يعدّ هرطقة وقت نجوميته في أواخر التسعينات ومطلع الألفية، لكن الآن لم يعد
شيء يهم، صدقني، لا شيء يهم.
لم أهتم بمتابعة
البرنامج إلا عندما قال إن مصدره كتاب الدكتور راتب النابلسي عن الأسماء الحسنى،
وأنا قد شاهدت له حلقات من قبل فأعجبني. تعلقت ببعض الأسماء جدًا مثل
"الرحمن" و"الجبّار" و"الودود" وصرت أدعو بها
كثيرًا. كانت أمي في العيادة بعد الإفطار وتيتة نايمة وبقية إخوتي في الجامع
يصلّون التراويح وأنا فضلت البقاء بالمنزل، أتطلع للسماء من نافذة الصالة الواسعة
وأقول يارب. كنت أدعو بقلب صافٍ أن يكون صاحب العينين البنيتين لي، وإيمان عميق
بأن الله سيحقق لي "الأفضل". ما زلت لا أعرف هل كان من
"الأفضل" أن نكون / لا نكون معًا؟ يقولون الأيام بتقسّي والزمن بينسّي،
لكني أجد نفسي مع مرور الوقت أميل أكثر لمسامحته ومسامحة الظروف والأشخاص
والعائلتين على كل ما حدث، وهذه المسامحة لم تحدث في ظرف ليلة، بل استغرقت سنينًا
عدّدته فيها المسؤول الأول عن افتراقنا بينما كنا ضحيتين. والآن تعبر ذكراه على مخيّلتي
فأبتسم، أرسل له نورًا وسلامًا ودعاءً خفيفًا بأن يلطّف الله على قلبه ويرزقه صحبة
تؤنسه، وأضعه على جنب في ركن قلبي وأكمل عملي، وابتسم.
الآن صارت
الرمضانات مثل بعضها. توقفت عن النزول للجامع مطلقًا لأني كرهت الإمام وكرهت
المصلّين بتسلطهم ونغزهم لساقيّ كي "أقرب أكثر" والحرّ وتعب ساقيّ
المطلق بعد الإفطار. أفضل أن تكون علاقتي بالله بيني وبينه، في غرفتي المظلمة إلا
من مصباح السرير كي أرى ما أقرؤه وأدعو به. صار الصيام أصعب، والجو أكثر حرًا،
والسنين تتقدم بي لتذكرني أني لم أعد تلك الطفلة الشغوف بتفسير كلمات تتر يغنيه
علي الحجار وتركيبها على حياتها الخاصة أو أن يأخذ الآخرون بالهم منها فيربتوا على
كتفيها. لم يبق لرمضان سوى بحة في الحلق من عطش بالغ ودعاء خفي بأن يرحم الله قلبي
في ضعفه وشيبته، ورغبة في أن تكون تيتة في مكان أفضل، وأن تسامحني على ما قصّرت في
حقها.
رمضان كريم :)
_____________________________________
نُشر في نون بتاريخ يوليو 2014
نُشر في نون بتاريخ يوليو 2014
http://nooun.net/article/1088/
No comments:
Post a Comment