Wednesday, April 9, 2014

ذِكر الأيام الهادئة: عن محمود كمال



يدندن بنبرة هادئة حنون "في عينيكي غربة وغرابة" لمنير:
"امتى اتقابلنا وليه وفين
لحظة قدر ولا حنين"
فتنسى حين تسمعه تمامًا صخبه الزاعق في المسيرات، حين يصوّب نظره إليك، مثبتًا عينيه على مقلتيك، يهتف بعلو الصوت من أعماق قلبه، مستمدًا القوة منك وممدّك بها. يستوحي الثبات والمواصلة من أصحابه، ويوحي بهما إليهم. ينتظرون وحيه بإيمان أنبياء أنهم حتمًا على الحق، فحتى لو غاب عنهم بسجن أو حبس، فهم يستحضرونه، على قلة عددهم، ويكملون دربه واعدينه بالنصر، و"مين من الأنبيا مكانش قلّة مندسّة".
...
"حبّني الشارع وحبيته
عضّ قلبي الليل وعضيته
خضّني الإنسان وخضيته
لما بان من وشّه عفاريته"
.
يظهر محمود مبتسمًا في صورة تعود لنوفمبر 2011، مرتديًا خوذة عُمّال البناء، وكمامة الأمن الصناعي مستقرة على صدره، والحطّة الفلسطينية تحيط برقبته. يحكي محمد نبيل عنه بأنه كان يدخل بصدره في شارع عيون الحرية فيُسمع لبلي الخرطوش انهمار على خوذته، ينصحه نبيل بالرحيل فيرفض قائلاً "أديني شايل عن ناس كان ممكن ينصابوا بالبلي ده".
يحكي لي محمود نفسه عن بطولات نبيل، يغبط نفسه على معرفته وصحبته، ويتمنى أن يصبح مثله. يقول في صوت مقرٍ بالحقيقة ولا يحاول التردّي بزيف ادّعاء البطولة المطلقة: " بييجي في دماغي محمد نبيل ميقدرش ميجيش في بالي ، كان معايا في أغلب الدخلات اللي دخلناها. بيجي في دماغي مرة قررنا منكتفيش لإننا نوصل عند التقاطع اللي بين شارع محمد محمود ومنصور، لا إحنا كمان دخلنا يمين في اتجاه الوزارة المنطقة اللي مكانش حد بيقرب لها خالص حتى إحنا كنا أول ناس بعد أول صف (حامل الراية). في مرة دخلنا لغاية جوه كنا احنا الاتنين جالنا الحماس إننا ح ندخل رحنا دخلنا، وبعدين اترمت علينا قنبلة راح محمد نبيل تِعب قلت له خلاص نرجع واخدته ورجعنا، اكتشفنا إننا كنا أضعف مما كنا متيخيلينه..".
في ديسمبر 2012، وعقب صدور الإعلان الدستوري وتمرير الدستور نفسه بسرعة غير عادية، أعلنت القوى الثورية اعتصامها في محيط قصر الاتحادية. حدثت اشتباكات حادة بين الإخوان ومناصريهم ومعارضي الرئيس ومناصريهم. يحكي محمود عن هذه الفترة أن الضرب بالخرطوش الكبير، القادم من ناحية الإخوان، لم يتوقف للحظة، وأنهم تعرّضوا لرصاص وغاز أكثر من أيام محمد محمود الأولى. ساعتها عَمِل محمود كساعي إسعافات أولية، يحمل المتضررين من الإصابات المختلفة لخطوط خلفية حيث المشهد المعتاد من القطن والشاش والبيتادين، والمعاطف البيضاء الملوّثة بالدم. ربّاه، لم ينقطع تكرار نفس ذات عيادة الطوارئ والتروما المرتجلة في كل ميدان، منذ 2011 حتى الآن. متى ستتوب علينا يا رب من تكرار تقطيعة القلب وملل التاريخ؟
....
اتذكر لمحمود موقفًا شخصيًا. كنا في ديسمبر 2011، وقد قررت 6 إبريل مناصرة مبادرة "كاذبون" بعرض تسجيلات الفيديو الخاصة بفضح جرائم العسكر في أحداث محمد محمود الأولى ومجلس الوزراء. اتذكر أني اعتراني دوار رهيب لمّا كانت تلك مرّتي الأولى في مشاهدة ما حدث، ولم احتمله. جاء ووقف إلى جواري صامتًا، لم يدرِ ما يقول ولا أنا انتظرت كلامًا. كان ما نشاهده فوق قدرة أي كلام على الوصف، وقدرة بشر على التحمّل. ارتفع بكاء أمهّات من حولنا وأدارت أخريات وجههنّ بعيدًا، وإن وصلتنا صوت بكائهنّ المكتوم. استندت إلى عصي الأعلام التي كنت أحملها. في ذلك الوقت، كان علم البلاد شيئًا عزيزًا، نحمله لنؤكد على صدق نيتنا بحمل الخير للوطن، قبل أن يمجّه أنصار العسكر وقاعدة عريضة من الشعب، جعلتنا نحن الثوريين، قلّة مندسّة، وخربت رمز العلم.
في غيابك يا محمود أُترَك لأبكي وحدي، في الشارع وبصوت عالٍ، دون أن يربّت أحدهم على كتفي أو تأخذني أمّ في حضنها. في ديسمبر 2012 وعندما كانت الحركة تعرض فيديوهات "كاذبون" أيضًا، لكن هذه المرة عن مقتل جابر صلاح رحمه الله، وقفت في منتصف الشارع بين ذاهب وغادٍ، كلٌ لشؤونه الخاصة، وبكيت جدًا. لم يقف أحد جواري. فقدنا قاعدة شعبية يا محمود ووقعنا في حيرة لم نعرف معها لماذا، أو ماذا نفعل الآن، ومن يواسي حزننا. كنا بحاجة لهدنة للملمة ألمنا، وجَبَر خواطرنا..
في عز الحوجة مبتجافيش يا محمود. أفكّر في عمل مجلدات ضخمة وسلاسل أفلام بعنوان "ذكريات فشيخة"، يكتب فيها كل شخص ما جرى له وشاهده وسمعه من أيام الثورة الأولى حتى الآن، فما جرى ويجري غير إنسانيّ بالمرة، ويحتاج عقولاً لا تحابي المنطق لكي تستوعبه، ولن تستوعبه.
...
"أحلم على شالك وأنام
كإني فرد من الحمام
برموش عينيكي تغطيني
رمشك شطوط طب رسيّني
إنتي أنا
وبكرة ليا وليكي
ليا وليكي.."
في صورة له غير منتشرة كثيرًا، يقف محمود بجوار خطيبته رنا، مبتسمين جدًا للكاميرا. ما لم يقله تعليقاهما على الصورة، اكتفت به أعينهما: فخر لدى محمود، امتنان، وعد للبقاء حتى تحترق النجوم، وحتى.. ابتسامة صافية عنده، يقابلها ابتسامة جميلة تصدرها رنا، واعتزاز لوجودها بجواره، وفي حياته.
تمثل هذه الصورة حضنًا قويًا وأليفًا لمن يراها، وطمأنة بأن القادم لا بدّ أحسن، وأن عيونًا كهذه صادقة على الوعد تنير لنا طريقًا وتفتح سكّة، وتقول مسيرها تروق وتحلى، حتى لو كانت وحلة J.
....
تشبّع محمود بسمرة القمح فتشرّب طيبته، صار بطيبة وجمال الأرض الطينية ورُطب التمر وصوت منير. أعطته سمرته مع ابتسامة وضيئة مدخلاً مباشرًا لقلب من يراه لأول مرة، مع مهابة جانب وقوة حضور تثبّته على أرض صلبة تمنع العبث معه. سمرته مدفئة للروح مثلما البطاطا الساخنة للجسد، في جوّ العصر الجليدي الذي نزل بالبلاد أخيرًا.
...
يتقافز محمود في هذه الأيام الهادئة الخالية من الاشتباكات بين عنابر المسجونين، محاولاً رؤيتهم وإدخال الإعاشات إليهم. في مكالمة عابرة للبحار إليه سألته ماذا كان يفعل في ليل 25 يناير، فقال بأنه يجمع قوائم بأسماء المعتقلين، وأضاف بنبرة حزينة: "خدوا مننا ناس كتيرة أوي يا رزان". وعندما صمتّ ولم أجد ما أردّ به، سألته سؤالي الاعتيادي: "وإنت عامل ايه؟" فأجاب بأن الناس محبطة جدًا. تجاهل نفسه وأحواله ليبوح بقلقه على المحيطين به. بس على مين، فلم يمض سواد الليل إلا وكانوا معًا يبحثون عن المحبوسين ويوصلون إليهم المدد ويبتسمون في وجوههم، ليجدوهم على حالٍ من طمأنينة من عرِف صحبه الحامي لظهورهم وقت الشدة، المبتسمين بدورهم.
...
القلوب هشة يا محمود، والثبات على الثورة صعب، والخبطات تتوالى، نسقط ونقوم. فلسنا لعبًا تُكسر ولا تنصلح، لكن قومتنا قد ترتبك، لا تعرف العنوان إليها فنتوه قليلاً.
في ليل التوهة يا محمود تعرف أنت الإجابة، رغم تهوّرك، تعرفها وتغنيها لنا وتبتسم لأعيننا الكليلة، فنشرق ولو قليلاً، ولو حبة صغيرين، لكنها كافية. حفظ الربّ روحك يا محمود، حفظ الربّ روحك. :)

No comments: