Wednesday, April 9, 2014

في البدء كان الخوف


كل شيء بدأ من نوفمبر.
كانت هناك إرهاصات بدء من أكتوبر، لكني كنت أقوى بدرجة بسيطة، بسيطة جدًا لأصرخ دفاعًا عن حق من قُتل في وجه قريباتي المؤمنات جدًا بحق الجيش في فعل أي شيء لـ"تأمين" البلد. دافعت ونشرت صورًا لمن ماتوا وترحمت عليهم، ذهبت للكنيسة وأوقدت لهم شموعًا يطفئها "راعي الشموع" فأعيد إيقادها رغمًا عنه، وهو يحيد ببصره عني كأنه لا يراني. صلّيت لله أن يرفع مينا مع الشهداء، وبعدها قرأت أنه "مش كل المسيحيين ح يخشوا النار" التي كتبها العزيز أحمد أبو الفضل، فاطمأننت أكثر.
جاء نوفمبر.
سيكون هذا مؤلمًا. سيوقد آلامًا بداخلك ربما لم تكن تعرف أنها موجودة أصلاً. لا تقرأ. لا تكمل القراءة. لا تحزن. متزعلش.
"فيه وجع في القلب"
كنا في لحظة في الميدان، في اللحظة التالية لها مباشرة نحن مطاردون ونهرب بأقصى ما نستطيع، وعقلي يخبرني أن كل هذا غير حقيقي، ولا يحدث. لاحقًا عرفت أن تلك كانت حيلة من العقل لمنعه من الانهيار، "كراك"، صوت الفِعل، صوت الانهيار، الكلمة الانجليزية التي تعني ذلك حرفيًا. لسبب ما، تبدو "كراك" أكثر قوة من "انهار".
صديقان لنا هربا عكس الاتجاه، فكان أن سقطوا بين مرتديي المموّه والقبعات الحمراء. ضُربا بقسوة، بعنف، بضراوة، اقتيدا لآخر الشارع، حيث سيارة الترحيلات. يحكي أكبرهما، محمود، إنه عندما دخل السيارة، جلس من تعبه والشعور بالتكسير في جسمه على حِجر شخص، فاعتذر له. لم يكن هناك مكان بالعربة، وقد قبضوا على ما يزيد على أربعمائة، وكدّسوا نصفهم في سيارة تتسع للستين. لاحقًا، عرف أن من قَبِل اعتذاره كان أخاه. ربما كان الأخوة معنيين باحتوائنا. أذكر سلمى، عندما حَكَت عن مقابلتها لأخيها، خمس دقائق فقط، خمس دقائق في الجمعة 28 من أول شهر بالسنة، قبل أن يفقدا وعيهما سويًا من الغاز، ويفترقا عند الصحو.
"لو تهت
لاقيني
ولو بعدت
طمنيني"
كنا كثيرين جدًا. أذكر أن يوم الأحد ذاك، العشرين، كان أكبر تجمّع للأصدقاء. كل صديق مشترك في كذا دائرة للصُحبة، فكان أن جمعهم وجاء. كنا كثيرين جدًا، وهربنا معًا. وقع الرعب في قلوبنا. ضاقت الدائرة جدًا، وطالتنا. توقف عامر، ونحن ننفذ من الشوارع الجانبية، لينظر إلى ما يحدث في بث مباشر من الميدان. عاد لنا سريعًا، وأخفى عيوننا عن التلفاز كي لا نرى، وهربنا. لاحقًا أخبرنا أننا لو عرفنا ما كان مرتدو المموّه يفعلونه، لعجزنا عن المواصلة من الرعب.
لم أخبر أحدًا بما حدث. ذهبت للمنزل اصطنع الهدوء. نمت. صحوت، ذهبت للمحكمة حيث محمودًا وعبد الله، قابلت والدتهما. أفرجوا عنهما في وقت متأخر بالليل. تدافع خالتي عن الجيش، أرفع صوتي عليها، يؤنبني زوجها. أغادر المكان غاضبة.
استكملنا نوفمبر. ضاعت عينا صديقين لنا، والعين الثانية لحرارة. يحكي صديقي المخرج الذي عمِل معه في وثائقي نشرته الجزيرة عن غضبه، غضب عارم، ليس حزنًا، ليس رثاءً، بل غضب، مشتعل، يلتهم ما أمامه، فلا يُبقي.
بات الرفاق في الشارع، تأتي الإعاشات فنوزّع الطعام في أكياس بلاستيكية شفافة. لا نقود في الجيب للمساهمة، فلا عمل لديّ. أهرب قبل الظلام، أصل للبيت في ميعاد معقول، فأكذب عن أين كنت.
"مهما الريح عصفت ضدي
الدنيا حواليا تلف
والغيوم بكرة تعدّي
والدموع مصيرها تجفّ"
يأتي ديسمبر.
تصاب قدم خالد، يدخل العمليات فيستيقظ بعد المخدّر ليبكي عدم قدرته على المواصلة. يحكي صديقه لي بعدها أن تلك الرصاصة كانت معنية لرأسه لكن ربنا ستر. يختبئون لهم أعلى المباني وتنطفئ أنوار الميدان فلا يظهر سوى التماعات خروج الرصاص من المواسير. الرعب. الرعب قادم. الذكرى ما زالت حية. نهرب ونعود. نذهب لآخر الميدان ونعود. يطير الرصاص حولنا فنتعجّب أنه لم يصبنا. يصيب عمرو في ظهره فيذهب للمستشفى المرتجل ليخرجه ثم يعود. يلّف أحمد رأسه بشاش نظيف ويبتسم. أهرب وحدي، ثم استجمع شجاعتي وأطلب من منار العودة للمنزل. نصل لأتدثر جيدًا في البطانية وأحاول النوم.
"ليه.. ليه الطريق طويل؟"
من أين بدأ الخوف؟ ومتى ينتهي؟
الصباحات ثقيلة. نستيقظ بخوف مبالغ فيه، وثقل. نمضي لأعمالنا مكرهين. لا نستطيع التركيز جيدًا. تغلي دماؤنا طول الوقت. لو أغمضنا أعيننا لوهلة نرى دماءً متفجرة، ورفاقًا أعينهم مفتوحة ونظرتهم فارغة، زجاجية. نعود للمنزل منهكين تمامًا. نحاول النوم، فلا نستطيع. أحدنا، "ك"، لا يملك النوم لخمس أيام متتالية فيأخذ حقنة تسقطه في نوم متقطع حفاظًا على عقله. البقية، يتناولون صاغرين حبوبًا منوّمة لكنهم يفتقدون المعنى. الألم، الألم حقيقي وعبثيّ كالهباء. لا نملك دفعه، لا نملك حياةً، لا نملك موتًا، صادروا حتى موتانا. نصمت، أغلب الوقت، نصمت. نبحث عن المعنى، نسائل الله، لا تأتينا الإجابة، فننتظر. ننتظر. ننتظر.
"ليدين من حجر وزعتر
هذا النشيد
لأحمد المنسيّ بين فراشتين
مضت النجوم وشهدتني
ورمت معطفها الجبال
وخبأتني
وخبأتني.."

________________________
الاقتباسات لأغاني فريق "أقصى الوسط" عدا أبيات الشعر الأخيرة، لدرويش.

25-3-2014

No comments: