في فيلم الباب المفتوح، المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للطيفة الزيّات، يأتي البوليس لشقة محمود التي يعيش فيها مع والديه وأخته، والخادمة الصغيرة، ويعتذرون للوالد: "معلش أصل عندنا أوامر" ويعتقلون محمودًا لأنه شارك في العمليات الفدائية. تظهر "ليلى" في الخلفية، متطلعة إليهم من فتحة صغيرة بين ضلفتي باب حجرتها، وتغلقها عليها جيدًا بعدما يذهبون. تتدثر بالبطانية جيدًا، وترفعها إلى وجهها، لتغطي رأسها كله. أعلنت ليلى سياسة المعركة القادمة: الكمون، والاختباء عن العالم.
تصبح الخطاوي ثقيلة. دبّ القدم نفسها على الأرض مسموعٌ وله وزن. صوت "التكحيت" في الأسفلت أو رصيف الشارع المكسّر لأنكِ غير قادرة على رفع قدميكِ. لهذا تصبح أشياء بسيطة وبعيدة المنال مثل أرجوحة في هواء طلق وبعيدًا عن المتظرفين هدفًا لوقف الزمن، قليلاً. اتذكر في فيلم "كبرياء وتحيّز" بطولة كيرا نايتلي، عندما كانت تلجأ لأرجوحتها المصنوعة من كاوتش سيارة نقل وحبلين قويين، هربًا من صخب منزلهم بأختها التي تعزف على البيانو دائمًا، وأمها دائمة الحديث عن الزواج. كانت تستمتع بإحساس ارتفاعها عن الأرض، وعدم اضطرار قدميها لحملها. يشبه الأمر الطفو فوق عوّامة ممتلئة بالهواء، في بحر هادئ نسبيًا. فكون أن الماء أو الكاوتش يحملك عن الأرض، يرفعكِ معه قليلاً، يخفف من ثقل الخطو وبعثرة السُبل، مهدئ لحدٍ كبير.
تركت ليلى نفسها في الرواية وهي في قارب في النيل. تركت المجدافين ودعت الماء يحملها كما أراد. ودّت لو يبتلعها الماء، فيرحمها من التفكير الدائم، والخيارات التي تتمزقها. في عالمنا الحالي، يصبح الهرب ترفًا، فالأخبار السيئة تلاحقكِ أينما كنتِ. الاعتقال على بعد شارع واحد منّا، والمظاهرات في شارعنا، والقنابل وصلت لشرفتنا. هل نبحث عن عالم أكثر قذارة من هذا؟ نعم، يوجد. التعذيب في الأقسام، القتل الممنهج، العنف الشعبي ضد أفراد من الشعب، مثلهم أو أكثر قليلاً، وجرائد دولية تكتب عن الاضطراب العقلي الذي عمّ أرجاء مصر. هل تبحث عن مخرج؟ هذا بلد يمسك بتلابيب ساكنيه ليقتلهم أكثر، حتى إذا جاء ميعاد صعودهم للسماء، أخذ الملاك أرواحهم وهم يتساءلون عن عدل الله وحكمته. فلندعُ معًا أن يرحمهم الربّ من الشكّ أحياءً، ومن المؤاخذة في الحياة الأخرى.
تُنهي نوران إبراهيم إحدى قصصها القصيرة المنشورة على مدونتها بتساؤل: "هو إحنا زمان اللي كنا خُفاف ولا هي الأض دلوقتي بقيت بتشدّنا؟". الحقيقة يا نور أن الأرض ما فتئت تجذبنا ناحيتها بقوة مغناطيسية غريبة، لكننا كنا نعافر. كنا قبل التخرّج نحلم بأمانيّ عريضة، وبأننا سنغيّر العالم. أذكر أني كنت قد أطلقت لقلبي العنان في ميله الأول، نحو شخص جميل المحيّا والداخل، وكنت أنوي أنه بمجرد إعلان خطبتنا سنكتب عن الحبّ: "ح نعلم العالم إزاي يحبّ". هكذا، وبسذاجة من على أعتاب العشرينيات. حسنًا، الحاصل أننا لم نُخطب، وأن صديقة لي – ريهام سعيد – أنشأت مدونة حاليًا لتكتب عن مشاعرها وتفاعلاتها مع خطيبها، وأنها حققت حلمي بتعليم العالم الحبّ. إلى متى سندع للآخرين توكيل تحقيق ما حلمنا به؟
أقول قبل التخرّج كنا نركل الأرض بقدمنا ونطير. رسمتني هاجر مرّة فتاة صغيرة بجناحين وتطير مع مجموعة بلالين، قبل ظهور فيلم "فوق" الذي طيّر بيتًا حقيقيًا ببلالين هيليوم، بحثًا عن شلالات الفردوس. في عالمنا، لا يوجد سوى شلالات الخراء الفكري والفعلي منهمرة فوق رؤوسنا يوميًا، ولم نعد نملك ترف الاختباء. أين نذهب ياربي؟ أين نذهب؟
"أهرب من قلبي أروح على فين؟" لطالما اعتبرت هذا السؤال موجعًا جدًا. أين سأذهب من الصور التي تلاحقني، والوجوه المعلّقة في السماء السوداء أينما نظرت؟ هناك تسجيل بصوت هادئ وواثق، اسمه "التأكيدات"، استمع إليه في الليالي العصيبة، قبل النوم. يقول التسجيل: "أعرف أنني هناك، بالماضي، لم استطع عمل شيء"، و"اتسامح مع نفسي التي لم تستطع اتخاذ القرارات السليمة، في الأحداث الماضية"، و"سأتوقف عن زيارة الماضي ومراجعة أحداثه، لأجنب نفسي المزيد من الألم، وبهذا أجلب الكثير من الطاقة الإيجابية والقوة، إلى حياتي"، وأخيرًا: "قد حان الوقت ليحرّكني الحب والاحتفال بالحياة، والرغبة في التعبير عن ذاتي".
لكن يظل خيار "إغلاق العالم" مراودًا عن نفسه، يلوح في الأفق، قادمًا أو مغادرًا، لكنه موجود. في نوم طويل ثقيل، بمنوّمات مثلاً أو بعد شرب أطنان من الكاموميل والتلبينة باللبن والعسل، أو الشوفان المطبوخ بالعسل مثلاً يعني، أو مجرد كورن فليكس بلبن دافئ، مع ترك الرقائق لتلين. يمكن سماع فيروز مثلاً، تقول علموني على حبّك ولاموني، ونقول لها إن الموسيقى تعرف، الرحابنة يعرفون، رابسودية فيفالدي للفصول الأربعة على عِلم، منير قالها من قبل كثيرًا، خصوصًا أغانيه "السنجل"، ويانّي عزف لنا وحدنا، خصيصًا لأجل قلوبنا التي علاها الصدأ.
يارب، وعشان خاطر كلمة "يارب"، هدّئ أرواحنا في رحلة عودتها كل يوم صباحًا لصدورنا، واجعل الفجوات التي نمشي منكفئين لنداريها، اجعلها لا مرئية، وهوّن علينا الحزَن كلّه. آمين.
__________________________
:نُشر في الشروق بتاريخ 13-3-2014
:نُشر في الشروق بتاريخ 13-3-2014
http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=13032014&id=47f5c578-bf93-4fe5-91f6-e58182ec2d51
No comments:
Post a Comment