يحتوي المقال على الكثير من تفاصيل فيلم Wall E
يبدأ الفيلم بمنظر علويّ لكوكب الأرض. فحين تخترق الكاميرا الغلاف الجوي، نلاحظ ازدحامه بالكثير من الأقمار الصناعية وبقية “قمامة” الفضاء. هذه بالضبط، “القمامة”، هي ما بُني فيلم Wall E عليها، على الأقل في النصف ساعة الأولى منه.
نرى ناطحات سحاب عادية، وأخرى صُنعت بالكامل من القمامة المشكَّلة في مكعبات محكمة الضغط، كيلا تأخذ مساحة كبيرة أكثر مما هي آخذته بالفعل. تبدو الأرض مهجورة جدًا، وصحراوية جدًا. إلى أن نلمح كائنًا صغيرًا يجري بين أكوام القمامة. هذا الكائن، وال-إي Wall-E، بطلنا الذي سيصحبنا في رحلة تغادر المكان والزمان لتثبت معانٍ جديدة للبطولة والحب والتضحية.
من البداية، نرى نقدًا واضحًا للعمل الذي تقوم به الشركات الكبيرة مثل Buy-N-Large التي استحوذت تقريبًا على كل شيء نراه في تلك الأرض التي يجري وسطها وال-إي. فهي قد أنشأت متجرًا عملاقًا ما زالت شاشاته تضيء محدِّثة “اللا أحد” عن مزايا التسوق منه، وعروضهم الجديدة، وآخر عرض مسجّل ظلّ يُذاع للسبعمائة سنة اللاحقة، هو عن الهرب من أكوام النفايات التي ملأت الأرض، للالتحاق بسفينة الفضاء أكسيوم Axiom، التي صنعتها أيضًا، مع وعد بترك الآلات شقائق وال-إي لتنظيف الأرض لحين عودتهم، بعد خمس سنوات كما هو مقرر لهم من الإعلان.
ينتقد الفيلم – بلمحة خفية – النمط الحالي لحياة البشر، أي الاستهلاك مع قليل من الزراعة، ثم تلويث الأنهار – يظهر هذا في جفاف مجرى مائي كبير وعلوّ جانبيه، مما صنع منه واديًا جافًا – وأخيرًا تكويم النفايات بلا مبالاة حقيقية بمصير الأرض. كل الدول تنتهج هذا النهج، حتى بلاد العالم الثالث “الفقيرة” نسبيًا، لها حصتها أيضًا من تلويث الكوكب بكل مسطحاته.
إضافةً لذلك، يلوم فيلم Wall E سكّان الأرض على إهمالهم لها بدلاً من الاعتناء بها، المحافظة عليها وتحويلها لبيئة “مستدامة”. وكلمة مستدامة تحديدًا هي ما بنى القبطان “بي ماكريا” نظريته عليها، وقراره بأن “يفعل شيئًا” لأن على حدّ قوله، لا أحد يفعل أي شيء على ظهر سفينة الفضاء تلك. في جدال القبطان مع الطيار الآلي، قال له “الأرض بها حياة مستدامة، والدليل على ذلك هذه النبتة. سنعود إلى الأرض.”
يستمر انتقاد فيلم Wall E لنمط الحياة الاستهلاكي المعاصر؛ فالبشر على سطح السفينة تحولوا لأجولة من البطاطس، حيث يجلسون طيلة النهار والليل أيضًا على كراسي طائرةٍ، يمكنها أن تتحوّل لأسرّة في الليل. يقضون كل وقتهم هكذا، يتحادثون عبر شاشات أمامهم، يتناولون الطعام في أكواب ذات أعواد ماصّة، كأنها عصير أو اللبن الذي يرضعون، إشارة لفقدانهم التطور الإنساني الحقيقي ليصبحوا أطفالاً بلا مسؤولية، مجددًا.
يظهر فقدان الإنسانية أيضًا في عدم التواصل الحقيقي، فعندما يسقط أحدهم من على كرسيه ولا يستطيع التحرّك لأنه لم يعتد الحركة على الإطلاق، يستعطف المارين حوله بأن ينقذوه ليجلس على الكرسي، لكن لا أحد يسمعه. لا أحد، سوى الروبوت وال-إي، الذي يساعده على الاستلقاء على الكرسي، ثم يهتف باسمه: “وال-إي”. وهكذا، أصبحت الروبوتات – أغلبيتها في الفيلم – أكثر إنسانية وتعاطفًا ولديهم مشاعر أكثر من الآدميين.
يظهر أيضًا في الفيلم قلق صانعيه من تأثير الاحتباس الحراري. فكلّ ما حول وال-إي صحراء مصفّرة، وتكثر العواصف الرملية جدًا لدرجة أنه يضطر للاختباء في “منزله” الذي صنعه بنفسه داخل مخزن لإصلاح روبوتات “وال-إي” وجمع فيه كل ما يجده “غريبًا” أو جاذبًا للاهتمام: مكعب روبيك، شوكة طعام لها بطن ملعقة يحار في تصنيفها، قطعة كعك “توينكيز” ما زالت طازجة رغم مرور 700 عام على تصنيعها، وأخيرًا، تحفته الفنية التي يشاهدها كل ليلة قبل الراحة، مقطعًا راقصًا لأغنية “أهلاً دولي Hello, Dolly! “.
وبهذا، يرسل فيلم Wall E رسالة تحذيرية من أجل الاهتمام بالبيئة، بدلاً من كونه مجرد “كارتون” عادي عن قصة الحب أو انتظار البطلة لأن ينقذها البطل، كما في حكايات سندريلا أو سنووايت. بدلاً من ذلك، يساهم البطلان – وال-إي وإيفا – في إنقاذ بعضهم وإنقاذ الأرض من مصيرها المُهمَل المتروك.
يشاهد وال-إي كل ليلة الفيديو الراقص، فيحلم بإمساك يد شخص ما، أي شخص، ويحلم بالحب، ويحاول الرقص مثلما يفعلون في الشاشة المكبّرة. تبدو وحدته كبيرة، خاصة عندما اتخذ من الصرصار صديقًا له. لوضع الصرصار في القصة دلالة أيضًا، فمن بين كل الأنواع التي تعرّضت للكارثة التي قضت على الديناصورات، لم ينجُ سوى الصراصير والنحل وأسماك القرش والسلاحف البحرية الخضراء، وثلاثة أنواع أخرى. لذا، من الطبيعي أن يستمر ليحيا بعد هجران الأرض.
لوال-إي طبيعة بشرية أيضًا، طوّرها عبر 700 عام من تركه وحيدًا. وتتمثل في هز الدرج الذي يتكوّر فيه على نفسه لينام، ثم يستيقظ متعكّر المزاج فيفشل في ارتداء حذائه – الجنزير – ثم يخرج متكاسلاً للعمل. يجد النبتة أثناء بحثه، فيحافظ عليها بوضعها بجذورها في حذاء قديم، ناويًا أن يضمها لمجموعته، غير عالم بأنها ستقلب ما تبقى من حياته. تتبدى تلك الطبيعة البشرية في كل الآلات “المارقة” عن النظام، فيتبعون إيف في محاولتها لإنقاذ وال-إي، وفي النهاية يتركون لهما الساحة ليتعارفا مجددًا على بعضهما، بعد وصولهما للأرض. هناك أيضًا آلات “وال-إي” العملاقة في سفينة الفضاء، والتي تركت عملها وسلّطت الأضواء عليهما لكي تساعد إيف على إنقاذ وال-إي، ثم تلوّح لهما حينما طارا ليكملا مهمتهما: العودة للأرض.
تأتي إيف، فتدخل دخلة مسرحية جدًا تلفت كل الأنظار، بآلات معقدة وصاروخ عملاق، ثم تظهر هي ناصعة البياض لتأكيد الاختلاف بينها وبين وال-إي المتسخ. يقع الروبوت الصغير في حبها من أول نظرة، ثم يشاهدها تطير بعدما يرحل الصاروخ وتتأكد ألا أحد يراها. تطير وتلعب في السماء وتدور حول نفسها، مبيّنة بذلك خصائص بشرية أيضًا، في عشق الحرية والرغبة في الحصول على بعض المرح أثناء العمل.
يترك وال-إي عمله ليعتني بها، بعد انتهاء مشهد تعارفهما الجذاب والممتع، ويمضي بها لبيته كي يريها الكنوز. لكنها رغم انبهارها بكل ما عُرض عليها، توقفت عن النشاط ودخلت في مرحلة كمون اضطراري بعد حصولها على النبتة، لأن هذا ما جاءت من أجله. هنا، تتبدى مجددًا الصفات البشرية لوال-إي، من رغبة بالإيثار والتضحية، فيصاحبها حتى في الفضاء، كيلا يفترق عنها مجددًا.
تأتي دخلة القبطان لتوضح كسله الشديد، لكن هذا يتغيّر مع فضوله النهم للمعرفة، حينما يسأل الكمبيوتر أن يحلل المادة التي تركها وال-إي في يده لما مدّ له ذراعه لمصافحته. يحلل المادة، ثم يطلب من الكمبيوتر أن يعرّف له كل شيء يخطر بباله: ما الزراعة؟ ما هي الأرض؟ عرّف البحر؟ ماذا يعني الرقص؟ وهكذا. يبدو أيضًا على القبطان بعض من ملامح الإنسانية، فيعتني بالنبتة عندما تصل ليده أخيرًا، ويرويها ببعض الماء كما شاهد في الكمبيوتر ليحميها من الجفاف. ثم يقرر أن يغلب الطيار الآلي ويعود إلى الأرض.
في نهاية مشهد العِراك بين الطيار الآلي – الشرير – وبين القبطان، وبعدما يسقط القبطان من على كرسيه، يحاول النهوض. في هذا المشهد، تتصاعد موسيقى فيلم 2001: A Space Odyssey، والتي أذيعت في هذا الأخير كخلفية لتعليم القرود استخدام الآلات. وهذه مفارقة ساخرة بين الفيلمين، للدلالة على ما وصل إليه حال البشر من خمول وكسل على سطح الأكسيوم، بعيدًا عن الأرض.
رسالة أخرى من صانعي الفيلم، وهي التأكيد على ضرورة مقاومة المجتمع الذي يريد أن يصنع منا نُسخًا متطابقة، وكيف ألا ننصاع وراء الضغط المجتمعي، وأن نكتشف مواهبنا المتفردة ونطوّرها. وهذا ينطبق على أغلب أبطال الأفلام الأخرى، مثل الفأر الذي يحاول أن يضارع طباخًا فرنسيًا، أو بطل خارق يحارب كيلا يتحول لشخص عادي، أو قبطان سفينة فضاء لديه كل الأسباب اللازمة لرفض الوضع الحالي.
يؤكد فيلم Wall E على انتصار الروح للقوة الهائلة للحب، وللخصيصة الإنسانية المعروفة بـ “التعاطف”. نراها في “إيف” التي صممت على استكمال مهمة العودة للأرض كي تنقذ وال-إي، ومحاولتها على السفينة أن تخفيه عن الأعين أو تعيده للأرض كيلا يتعرض للأذى. نراها أيضًا في محاولة ماري إنقاذ الرُضّع عندما مالت السفينة على جانبها ومال معها كل الركاب وسقطت المقاعد متجهة نحوهم، ثم تأتي إيف التي لم تقتنع بترك البشريين يرتطمون بالمقاعد المهرولة نحوهم، فتركت مهمة إنقاذ وال-إي واستخدمت كل قوتها في إبعاد تلك المقاعد الساقطة. لكن المساعدة لم تختفِ، فقد انتصر القبطان لروح النبتة وللأمل والتصميم بداخله، وعدّل من وضع المركبة فتمكنت إيف من مساعدة وال-إي.
بقي أن نذكر الجوائز التي حصل عليها فيلم Wall E فقائمة الانبهار به تتضمن جائزة الجولدن جلوب لعام 2008 في فئة أفضل فيلم رسوم متحركة، وجائزة هيوجو لعام 2009 لأفضل عرض درامي طويل، والأوسكار في فئة أفضل فيلم رسوم متحركة، إلى جانب ترشحه لخمس جوائز أخرى من الأوسكار.
في النهاية، يمكننا أن نعتبر فيلم Wall E عريضة دفاع عن البيئة التي يخرّبها الإنسان على مدار اليوم والساعة والسنة، وعرضًا آخر لخصائص إنسانية في سبيلها للزوال لو استمر البشر على نفس المنوال الحالي من اللامبالاة والتجاهل، وأيضًا احتفاءً بالحب والتعاطف، ودورهما في إنقاذ البشرية. هذا تقريبًا كل ما أراده المخرج، أندرو ستانتون إيصاله للمشاهدين، ليصبح الفيلم بذلك مناسبًا للكبار والأطفال، على حدٍ سواء، وليجعله من أفضل أفلام الرسوم المتحركة التي أنتجتها بيكسار في بدايات العقد الأول من الألفية الجديدة.
______________________________
* نُشر هذا المقال على "أراجيك فن" بتاريخ
* نُشر هذا المقال على "أراجيك فن" بتاريخ
1-6-2016
** المصادر: