أفكّر في أني مشتبه به قوي جدًا في نظر المسيو بوارو – بواغو كما ينطقها هو. فأنا تحركاتي غير منتظمة، خرقاء نوعًا ما، أقول كل ما يأتي على بالي دون تفكير، لا أعرف أين كنت في مساء الحادي عشر من يونيو الماضي، وبالتأكيد لي أعداء كثيرين يشتبهون بي.
السجلات الحكومية لا تذكرني، وبهذا أنا غير موجودة أصلاً، ولو فعلت، فإنها تذكرني بالسوء، لو جرّب وفتّش في سجّلات الأمن الوطني، لو كانت متاحة في أكثر خيالاتنا جموحًا.
وُلد هيركيول بوارو، شخصية المحقق البلجيكي اللاجئ لبريطانيا، في رواية “القضية الغامضة في ستايلز” المنشورة عام 1916، والتي تعدّ أول رواية تكتبها أجاثا كريستي، الملكة المتوّجة على عرش الروايات البوليسية.
أما على الشاشة، فقد وُلد بوارو في مسلسل: “Agatha Christie: Poirot” الذي عُرِضَ من عام 1989 إلى عام 2013، على قناة ITV المسؤولة عن بعض أكثر المسلسلات نجاحًا وشُهرة مثل “Downton Abbey – 2010”.
لعب دوره “ديفيد سوشيه”، الذي رشّحته عائلة أجاثا كريستي نفسها بعدما رأوا دوره في مسلسل Blott in the Landscape 1985””. وقالت روزاليند هيكس ابنة أجاثا كريستي إن والدتها ستكون مسرورة، لو أنها عاشت ورأت تمثيله لشخصية هيركيول بوارو.
يأتي سوشيه، فيلعب دور بوارو بحرفية: يزيد وزنه لينبت له كرش لطيف، ويدفع حائك الملابس الذي يتعامل معه – فلنتذكر أننا في إنجلترا الثلاثينيات، بعد الحرب العالمية الأولى وقبل الثانية، حيث الكلّ لديه حائك خاص – للتساؤل عن إذا ما رغب في اتباع حمية أو التفكير في وزنه، فينظر له بوارو بغضب ويقول إن العيب في قياسات الحائك لا في جسد بوارو.
لكن في حلقة أخرى، بعدما رأيناه وهو لا يستطيع الانحناء جيدًا أو التقاط صندوق ومساعدة صديقه الضابط المتقاعد كابتن آرثر هيستينجز؛ زميله وشريكه في حلّ الجرائم، يتجه لإحدى المصحّات على البحر، حيث يخضع لجلسة ساونا مقيتة، احتملها بصبر وجلَد لأنه رجل ذو مكانة وعليه ألا يشكو.
لكن في هذه المصحّة بالذات تقع جريمة قتل، فيحلّها بعد بعض الجهد، وبهذا تنتهي رحلته بعدما حصلت “الخلايا الرمادية الصغيرة” في عقله على ما يكفيها من الراحة، كما يقول.
“فلننعش خلايانا الرمادية” أو “إن الخلايا الرمادية الصغيرة تقوم بعملها” تنويعان على نفس المعنى، أي خلايا المخ التي تقوم بالتفكير وحلّ لغز الجريمة. تلك التي كان يخدمها بوارو جيدًا، فيأكل السمك وخاصة السلمون، ويسافر للبحر، ويخرج للتنزّه في الحديقة، ويشرب الشاي بالأعشاب – يُسمّيه “تيسان Tisane” – كريه الطعم على رأي الكابتن هيستينجز، ويغمض عينيه كثيرًا خلال اليوم ليفكّر في حل قضية ما أمامه، ويحصل على قدر كافٍ من النوم يوميًا، في سريره المرتّب جيدًا، الذي يتوسطه تمامًا عند الاستلقاء، ويضع كلتا يديه الممسكتين بحافة الغطاء، على صدره.
أقول لقد تقمّص سوشيه الدور جيدًا جدًا، ووضع شاربًا “صغيرًا مضحكًا” على حدّ وصف السيدة كريستي في قصصها عن بوارو، التي تزامن أني قرأتها مع مشاهدة مسلسل Agatha Christie: Poirot .. تنحرف حافتاه للأعلى، ويحرص عليه جدًا، فيضع عُدّة التشذيب:
مقص صغير ومشط أصغر ومرآة، وموقد متناهي الصغر يُشعله بالكبريت كي “يصبغ” شاربه بعدما شاب؛ في درج مكتبه حيث يجلس في انتظار القضايا لتهلّ عليه. رأسه أصلع إلا من بعض الشعر على الجانبين، والذي يحرص على تمشيطه وتسويته حرصًا مبالغًا، ويعود من عِند المزيّن ليتطلع مليًا في المرآة، ليعرف هل الشعر على جانبي الصدغين متساوٍ تمامًا في الطول أم لا!
أصبح سوشيه، مثل وصف كريستي لبوارو، شخصية بيضاوية: جسد يشبه البيضة، ورأس أصلع بعيون ثاقبة وشارب معقوص لأعلى، فيغتاظ منه أحد المجرمين الذي كشف سرّه ويصيح مهمًا بضربه: يا رأس البيضة!
وبهذا يكون قد حقق تقمصًا شكليًا ممتازًا لشخصية هيركيول بوارو، حصل عليه بسببه فنانو التجميل والملابس القائمون على المسلسل جائزة أحسن ملابس ومكياج، قدمتها مؤسسة “جوائز الأكاديمية البريطانية للحِرف التلفزيونية The British Academy Television Craft Awards، للأعوام 1990 – 91 – 92.
رأس البيضة
لكن تقمّص البطل لدور الشخصية الرئيسية لم يأتِ حسب الشكل فقط، بل هناك اللغة أيضًا. من المفترض أن “هيركيول بوارو” كان رئيس الشرطة في بروكسل ببلجيكا، وعندما قامت الحرب العالمية الأولى لجأ لبريطانيا، واستقرّ في لندن على الدوام.
نتيجةً لنشأته، فإنه يتكلم الإنجليزية محشوّة بكلمات وتعابير فرنسية، مثل “أليس كذلك؟ – N’st-ce pas؟” أو “بالضبط، أو تمامًا – Parfait” أو حينما يخاطب هيستينجز أو كبير المفتشين جاب، بقوله “يا صديقي – Mon ami”.
يتحلّى بوارو أيضًا بخصلة الغرور، فهو يعرف دائمًا ما يقول وما يفعل وما الخطوات التالية لاتخاذها، وينتبه لكل تفصيلة. في نهاية بعض الحلقات، عندما يجتمع بكل المتعلقين بالجريمة – سواء أبرياء أو متهمين – ليُطلعهم على الحلّ، يقول في المقدمة: ميدام إي ميسيو – أيها السيدات والسادة – ما فعلت هذا إلا لإنقاذ سُمعة هيركيول بوارو كمحقق، حيث يخشى ألا ينجح في إحدى المرات فيُشاع عنه ذلك ويشمت به الناس، ويفقد عملاءه.
في نهاية قضية أخرى، وعقب سماع بعض الملحوظات من هيستينجز عن ضرورة التواضع، يقول ردًا على إطراء السيدة صاحبة القضية إن هذا “لا شيء”، وأنه قد “حالفه الحظ فقط”، متخليًا عن غروره الأسطوري، فيبدي هيستينجز تعجبه، ويصمم بوارو على ألا يضاهيه أحد في تواضعته أو “Humbility”، كما ينطقها مخترعًا كلمة جديدة للإنجليزية!
وُلدت شخصية بوارو لأول مرة في رواية “القضية الغامضة في مدينة ستايلز”، والتي كُتبت أثناء الحرب العالمية الأولى، عام 1916، ونُشرت بعد ذلك بأربع سنوات. ذكرت كريستي في هذه القصة لأول مرة أيضًا كبير المفتشين في سكوتلانديارد؛ جيمس هارولد جاب، والكابتن آرثر هيستينجز، العائد لتوّه من الحرب.
كان بوارو وهيستينجز قد تقابلا مُسبقًا في قضية وعملا على حلّها معًا، فلما تقابلا ثانية اتفقا على حلّ لغز موت السيدة إيميلي إنجلثورب في ستايلز، ومنذئذٍ وهما يعملان معًا. يقول بوارو في إحدى الحلقات عن هيستينجز أنه يفكّر بعادية جدًا، بحيث إنه يدفعه للتفكير في النقيض تمامًا مما يقوله هيستينجز، لكي يصل لطريقة التفكير ووسيلة تحقيق الجريمة التي اتبعها القاتل/ المجرم، والذي حتمًا يتمتع بقدر من الذكاء كبير لكنه لا يُضاهي – بالطبع – ذكاء بوارو.
في المكتب لدى بوارو في لندن، توجد الآنسة فيليسيتي ليمون، وهي تقوم بدور السكرتيرة وحافظة الملّفات ومُعدِّة التيسان الخاص بالسيد بواغو، وترتب له مواعيده، وتمارس في إحدى الحلقات قراءة أوراق التاروت ولعبة الويجا للتواصل مع الموتى، حيث يكتب الميّت المفترض أنه فرعوني كلمات بخرفشة تشبه العربية!!
كما تأخذ دروسًا في الرياضة البدنية والتنويم المغناطيسي، وتساعد المحقق فعليًا في حلّ إحدى القضايا بممارسة التنويم. بالإضافة لهذا، فإنها تصحبه في كثير من الأحيان لأماكن بعيدة عن لندن، لتساهم في إلقاء الضوء على بعض الحقائق لتساعده في حلّ القضايا.
شخصية ميس ليمون عملية فعلاً، ترفع حاجبيها الرفيعين جدًا في استنكار لأي شيء غرائبي يقوله بوارو، ثم تهز كتفيها وتمضي لغرفتها المتصلة بغرفته بنافذة زجاجية، يفتحها المسيو ليطلب التيسان بثلاث ملاعق – وأحيانًا خمسة – من السكّر.
لكن رغم عمليّتها، ففي إحدى الحلقات التي وقع بوارو فيها في غرام كونتيسة روسية هاربة يراها لأول مرة، ويأخذها للمتاحف والحدائق، يتحدثان كثيرًا وبأدب شديد، ويودّعها على المحطة برقة بالغة تكاد تفرّ دموعه معها، ويعرف أنها هي المجرمة لكن يرفض تجريمها أو أن يخبر الشرطة عنها.
في تلك الحلقة تحديدًا، يغيب بوارو بالأيام عن مكتبه تاركًا هيستينجز يتعجب من ذلك، ويسأل ميس ليمون: “ماذا سنفعل إذا اتخذ طريقًا آخر غير هذه؟” – أي تزوّج. يقول هيستينجز إنه سيسافر لأمريكا الجنوبية، ويسألها ماذا ستفعل، فتصمت ويبدو عليها الوجوم، وتدير وجهها كيلا تبكي، وتطلب منه عدم الحديث في الموضوع. في هذه اللحظة تحديدًا، أكاد أتيقن أنها تكنّ مشاعر للمسيو، لكنها نجحت في إخفائها.
الكاتب كلايف إكستون والمخرج بريان إيستمان، عملا معًا في كتابة السيناريو والإخراج من الموسم الأول حتى الثامن. كتباه بحذاقة بالغة، بحيث حوّلا كل قصة قصيرة تنتهي في صفحات بسيطة إلى حلقة مليئة بالأحداث والكلمات مدتها تقارب الساعة، مقحمين الشخصيات المُساعدة: جاب وهيستينجز وليمون، في كل واحدة منها عدا الموسم الرابع. رسما الشخصية جيدًا جدًا، واتبع الممثلون تعاليمهما بدقة، فخرجت النتيجة بمهارة وحرفية واضحتين.
نعود لشخصية بوارو التي جسّدها ديفيد سوشيه في المسلسل، فهو يحب الأشكال المربعة؛ حيث تصفه كريستي في إحدى القصص أن بيته يخلو من المنحنيات، فالأرائك مربعة وحتى الوسائد الصغيرة، ويتمنى لو كل شيء في العالم مربّع الشكل.
يكره الغبار جدًا، حيث في أحد أوقات فراغه من القضايا يُعلِّم هيستينجز كيف يلمّع حذاءه وأي المواد يستخدم. يتابع الأخبار جيدًا، وذاكرته تحتفظ بالأسماء والشخصيات. يرفض ذات مرة تناول بيضتين على الإفطار، لأنهما ليستا “متساويين” في الشكل والحجم.
يكره السفر بالبحر والجوّ، بل إنه نام في إحدى الرحلات بالطائرة الصغيرة ذات المحرّكين، وحصلت جريمة قتل على بُعد عشر أمتار منه، واضطلع بالتحقيق فيها كيلا يقول الناس إنه “غافل” عن المجرمين وما يفعلوه.
يحب النظام جدًا، لدرجة أنه يرتّب التماثيل الخزفية الصغيرة على رف مدفأة السيدة إيميلي إنجلثورب مرتين، وبهذا يكتشف أين ذهبت الوصية، ومن القاتل. عند مروره بجوار بائع الصحف، فهو يرتبها بدقة كبيرة تغيظ البائع لكنه مهذب ولا يتكلم. عامة، كل الشخصيات حتى القتلة، مهذبون جدًا في هذا المسلسل.
تقول الويكيبيديا إن كلايف إكستون وبريان إيستمان تركا شخصيات هيستينجز وجاب وليمون تختفي، واقحموا أمورًا لم تكتبها كريستي نفسها، مثل تعاطي المخدرات والجنس والمثلية، ويُعلون من الشخصيات النسائية وبطولاتها رغم حياد كريستي فيما يتعلق بالبطولات لكلا الجنسين.
شكرًا سوشيه، شكرًا كريستي، شكرًا قناة ITV، على كل المتعة الراقية النظيفة التي قدمتموها لنا في مسلسل Agatha Christie: Poirot.
____________________
* نُشر في "أراجيك فن" بتاريخ
* نُشر في "أراجيك فن" بتاريخ
13-4-2016
** أول مقال أنشره مع أراجيك، وله في قلبي معزّة خاصة :))
*** يُصادف إني كنت بارفع المقالة ومحمد صلاح بيجيب الجون التاني عشان المنتخب يصعد كاس العالم :D
No comments:
Post a Comment