"تيجي نحلم بوضع هادي.. ورقصة لاتنين؟".
ما أبقاني حية هو أنني سأراك يوم السبت.
كان الأربعاء، وكنت قد تلقيت صدمات كثيرة متلاحقة، آخرها كان ثقيل الوطأة بشدة، كأن حذاءً عملاقًا يعصر رقبتي. ظللت أرتجف وألهث وأنا أحدق في الأقراص الصغيرة المتناثرة. أتت لذهني فكرة: "سأقابلك السبت وسأحضنك". وضعت الأقراص مكانها ونهضت لآكل.
جاء السبت ببطء هائل. كل يوم أحدق في التقويم: ما اسم هذا اليوم؟ ليس سبتًا بعد؟ فأنتظر، ولا أطيل التفكير.
أصل للمقهى قبلك ويتنابني توتر غير مفهوم. أدخل للحمام فتراودني فكرة عابثة: سأضع بعضًا من الروج! كم مضى من زمن لم أهتم فيه بشكلي! حتى أنني توقفت عن تهذيب حاجبيّ. قبل أن أنزل من البيت، ترددت هذه الفكرة تحديدًا في رأسي: أي حاجبين هذين؟! لكن الفكرة القديمة التي ارتضيتها عادت: أنت من الأرواح الطيبة -Kindred Spirits كما تقول آن شيرلي في رواية "آن من منزل جريت جيبلز"- فلم أقلق، وارتديت ثيابي وانطلقت.
أجلس وظهري للباب، لأنني لاحظت عربة أمنية تقف على مقربة، ولما تطلعت إليها انقبض قلبي بشدة وزادت رجفة يديّ. لم أرك وأنت داخل، وإن لاحظتني على الفور وجئت لتجلس في مواجهتي.
"تركت إيدي معلقة
ع أطراف كنزته وغفيت
غزال ونايم ع قلبي
محوّط بالكرز، وبكيت"
أخذت تثرثر، كعادتك. لم أقاطعك، سرحت في أفكاري. منذ زمن مضى، زمن طويل طويل، وقد أظهرت تفهمًا غريبًا عليّ. لم تؤنبني على شيء، حتى ما تصورته تقصيرًا في حق الآخرين رأيته شيئًا عاديًا نظرًا للظروف ساعتها. تعاطفت معي في أكثر من مناسبة، تعاطفًا مغلفًا بشيء من التحفظ، فأنت لا تسمح لمشاعرك بالطغيان على ملامحك أو كلماتك. رحت تتحدث وأنا سرحت، سرحت تمامًا في أفكار متقاطعة متناثرة لا أذكرها، لكن ما احتل تفكيري مليًا ساعتها أنني أريد أن أمسك بإصبعين من أصابعك، لا يدك كلها، لا كامل الكف، بل إصبعين فقط، كأن ليس لي الحق في احتضان كفك. هل لي الحق في احتضان أكف الآخرين؟
ظللت أحدق في كفك المستريحة على المنضدة، ثم في ذراعك كلها النحيفة جدًا. أتطلع إليك ولا أراك، على فكرة. أبقيت يديّ أسفل المنضدة كيلا تراهما ترتجفان. لماذا عليّ أن أخفي ارتجافة يديّ عنك؟ عنك أنت بالذات! تستغرب أختي من تنفسي الثقيل المتتابع ورجفة جسمي كله، تتطلع إليّ باندهاش قوي ولا تتساءل.
يؤلمني التحديق غير المتعاطف، لكنك لن تحدق، لن تسأل حتى، وسأكون سعيدة بعدم سؤالك، لأن معناه أنك لم تلاحظ الرجفة، أو لاحظت ولم تشأ تكبير الموضوع.
ألو كانت كفاي على المنضدة لسهل عليّ احتضان إصبعك الصغرى؟
تجلس في مقابلتي لكن بزاوية، فساقاك طويلتان جدًا ولا تريدهما أن ترتطما بساقيّ. تقول مازحًا "متر وتمانين، عايزة إيه؟"، وأغضب لأني أحاول المقارنة بين طولي وطولك، وأؤكد "أنا طويلة!" فتضحك. أفرد ساقيّ لتصلا لتحت كرسيك، فلم أعد أستطيع ثني ركبتيّ جيدًا، وأشكر لك التفاتك لتترك لي المساحة الخاصة بك. هل كنت تعرف؟ امتدت آلامي لكل ناحية، فلم تترك مفاصلي في حالها، ولم أعد قادرة على الشكوى.
"تيجي نحلم
بسما هادية
وناس رايقين؟
تيجي نحلم
بوضع هادي
ورقصة لاتنين؟"
"وضع هادي"، النقيض تمامًا مما أشعر به. بداخلي حرب، وقصف ومدافع دوّارة، بداخلي رجفة عنيفة ورغبة هائلة في العثور على الطمأنة من أي شخص. هل كان ميلي لاحتضانك كلّك أو كفك غريبًا، إذًا؟
اتفقنا منذ وقت بعيد على أن تحتضنني ما أن تراني. كنت عائدة من الخارج، في تجربة مؤلمة من الوحدة والقسوة، فلما اتفقنا على اللقاء استأذنتك في أن نحضن بعضينا، ووافقت. لكننا نسينا. عامان إلى الآن نسينا فيهما أن ننفذ ما اتفقنا عليه.
أمس كنت أتحدث لأحد المعارف عن التقبُّل غير المشروط. قلت إن أساسه أن يكون في العلاقة بين الأبوين والأبناء، لكني عدت وضربت مثالاً بصداقتنا: أنا أتقبلك قبولاً غير مشروط، وقلت لهم إنني لم أعد أتضايق من دخان سجائرك، إلا في الأوقات التي يصيبني فيها التهاب الشعب الهوائية، وهي كثيرة، أو تضربني الحساسية فيزيد تنفسي ثقلاً على ثقل. مع غيرك، لا أفعل هذا مطلقًا، لا أطيق الدخان وربما أتشاجر مع من يدخن بقربي.
كنت تتحدث في اللقاء السابق عن أشياء كثيرة، تركتك تثرثر، كنت أريد السماع أكثر. قلت أشياء في غاية العذوبة، أشياء حنون تراها أنت عادية وأراها أنا مذهلة، فلا يفعل الآخرون ما تفعله. لفترة طويلة ظللت في المنزل محاطة بأفراد يرون الحنان شيئًا زائدًا أو غير ضروري، فلما تحدثت عن مساعدتك في إنقاذ حياة الشخص الذي لا تعرفه واتصل بك في عملك يشكو من شيء خارج سلطاتك، ورأت مديرة الفريق ذلك الفِعل تجاوزًا لواجباتك وخصمت من مرتبك، ابتسمت جدًا. رأيت أنت تصرفك عاديًا، لكني رأيته آتيًا من عالم آخر، أكثر اهتمامًا، أكثر تعاطفًا مع الآخرين.
تصرخ أمي في أختي الكبرى الآن أمام الضيوف، فيهرب تفكيري إلى وجوب أن أراك حالاً، وأقضي معك اليوم كله، رغم علمي بانشغالك في عملك الجديد. ماذا لو كنا في فنلندا، ممن تمنحهم الحكومة راتبًا شهريًا وهم لا يعملون، في خطة منها للتكفل بكل المواطنين لأن هذا من حقهم؟ ألم يكن الوقت ليسمح لنا بالمقابلة، في أي موعد، ولم يكن الجو هجيرًا مثل الآن؟
"اغفا أنا
أصحى وأنا
غزالي"
في العالم أشخاص مستغربون، يحملون من التعاطف والاهتمام والحنان ما يجعلهم "عَجَبة" في بلد من العالم الثالث تقتل أولادها بكل بساطة، لكنني أريد التحدث عنهم، وأن أظل بقربهم، علّني أصدق أنهم حقيقيون تمامًا، مثل بقية من يفسدون فيها ويسفكون الدماء.
"لا ينبغي للطيبين أن يحْتجبوا عن العالم، لأنهم يصنعون كل الفارق، لأنهم يجعلون العالم محتملاً، ويشملونني -شخصيًا- بالطمأنينة، ويمسُّون قلبي باليقين، بأننا على صواب على قلة عددنا، لذلك ما كان للطيبين أن يحتجبوا لأنهم قلة مطلقة لا يجوز لها الراحة إلا قليلاً، وبخلاف بعض العزلة فقد كتب الله عليهم السير في العلن، لأنهم معالم الطريق، ونوره."
ــــــــــــــــــــــــ
*العنوان والاقتباسات الأولى من أغنية "تيجي نحلم" لتيريز يزن.
*الاقتباس الأخير من تدوينة لأحمد أبو الفضل، مدونة "مثل سيرة ذاتية" على تمبلر.
____________
* نُشرت هذه التدوينة على نون بتاريخ
* نُشرت هذه التدوينة على نون بتاريخ
10-7-2017
No comments:
Post a Comment