Sunday, May 25, 2014

كيف يمكننا أن نعيش؟



يتساءل أحمد جمال في مقال له عن معتقل كان المفترض أن يعرفه: "وماذا عن قصصنا نحن؟".. نعم، لمَ لا يكتب أحدٌ عن يوم عادي في حياة قريب أو صديق لمعتقل؟ ماذا عن الحكايات العادية لأناس جعلتهم الوقائع يعيشون أحداثا فوق عادية؟ حكت أجاثا كريستي مرة عن رجل غامض يظهر عند اكتمال خيوط حكايات عادية لتجتمع وتشكّل جريمة، لا ينتبه إليها الآخرون عادة، وكتب جارثيا ماركيث مجموعة قصص قصيرة عن أمر مشابه، فماذا عن قصصنا نحن؟
عدت من السفر أول أمس. صممت اليوم على زيارة صديقي كريم، جاميكا*، في محبسه بمعسكر للأمن المركزي، على طريق مصر اسكندرية الصحراوي. كان عليّ أنا وصديقاي أن نسافر من أقصى شرق القاهرة لأقصى غربها. في البداية، لم يكن معنا نقود كافية وتوجهنا لبنك لتحويل ما معي من مال، أو "نشتري جنيهات". اندهشت للتعبير، فكيف أشتري نقودًا؟ لكني انبسطت أن سعر الصرف كان جيدًا وأخذنا أموالاً كثيرة، صرفناها كلها على الأطعمة المشوية. لماذا اللحوم غالية في مصر؟
صمتت صديقتنا نوعًا، ثم اتجهت لمحل يبيع المشغولات الفضية. قالت إنها تحمل "أنسيال" أو إسوارة فضية لا تحتاجها، وفكرت في بيعها. كانت قد اشترتها بأربعمائة جنيه، وتفاءلت كثيرًا في أن تحصل على سعر جيد لها. خرجت سريعًا من المحل بعدما أجابها البائع بقلة اكتراث أنه سيعطيها خمسة وخمسين جنيها ثمنًا لها. لماذا يبخسون ثمن الحُليّ المباعة في مصر؟
ركبنا خمس مواصلات متنوعة، وصلنا في النهاية، ننتظر أمام باب المعسكر في وسط الصحراء ليسمحوا لنا بالدخول، أفكّر أن على كريم ومحمد شريف المحبوسين معًا الخروج بسرعة قبل الصيف، لأن هذا المكان لن يتحمّلنا والحرّ معًا، عليه أن يختار بين أحدنا. ندخل، يفتشوننا، ننتظر ثانية، ولا أعرف ماذا ننتظر، ثم يتضح أننا سنركب سيارة الترحيلات لأن مكان احتجازهم "جوة". أحمد الله أنه ليس "جوة وتحت" كما اعتادوا وضع المحتجزين في قاعات المحاكم..
نركب سيارة الترحيلات، أفكر أنها المرة الأولى لي، واتذكر أروى صالح التي حكت عنها رضوى عاشور في إحدى رواياتها، عندما اعتقلت فكتبت هي وأصدقائها على قصاصات أوراق "إنهم يقتلون الجياد" ونثرتها من شبابيك السيارة. أمِلَت أروى أن يهتم الناس، أن يتحركوا لأجلهم. لا بد أنها ستنتحر مرتين لو رأت ما عليه الحال الآن، والناس يهللون لمقتل أو اعتقال المختلفين عنهم.
في السيارة، طفل تبلغ قامته خصري تقريبًا، لا ينظر إلينا، ويخجل من ميله القسري نحونا كلما انعطفت السيارة. يذكرني بصورة الطفل الذي "أخذوه" ضباط الأمن المركزي يوم 25 يناير 2014، نفس يوم اعتقال كريم ومحمد شريف، والولد يحلف لهم أنه كان يغنّي لإلههم الجديد، المشير. هناك طفل آخر، كان يقبّل يد الضابط الذي كان يجرّ والدته المنتقبة، ليحبسها. تذكرت صورتي الطفلين، وكيف أني لم اهتزّ عندما رأيتهما. أفكّر نفسي بموقفي أيام أحداث محمد محمود الأولى، وكيف أني ظللت دون انفعالات، إلى أن انفجرت باكية في صالة السينما، وأنا أشاهد فيلم "وهلّأ لوين؟" لنادين لبكي. لماذا كان عليهم أن يقتلوا نسيم، في الفيلم؟
نصل، لكن لا بدّ من إذلال أخير. يغلقون أبواب المعسكر، ويخرج بعد فترة طويلة ضابط في ملابس مدنية، يرتدي نظارة طبية وغير حليق. يبدو طيبًا و"مثقفًا". تفاءلت. أخذ ينادي على أسماء المعتقلين لندخل إليهم. هناك محتجَز لم يحضر له أحد، فنظر إليه الضابط بشراسة وأخذ يزعق في وجهه: "خش جوّه". تألمت لأجله.. من هنا بدأ "الوجع" في منتصف الصدر. لا الانثناء على الجسد كافٍ ولا حضن نفسي يصلح.
أخيرًا، نادى على اسمي كريم وشريف. دخلنا. سلمت عليهما بحرارة، وقال شريف وهو يبتسم "فرصة سعيدة" لمّا كانت هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها. كريم في حُلّة بيضاء تمامًا ونظيفة جدًا، جرح خفيف في ذقنه من أثر الحلاقة. لم يكن يرتدي نظارته فكان عليه الاقتراب من وجوهنا كثيرًا. كنت اتأمله عندما يحادث أحد رفيقيّ، لكن عندما يحوّل نظره نحوي ارتبِك. لم اتكلم. ماذا أقول؟ أوحشتنا كثيرًا؟ أنت الآن حرٌ وحرٌ وحرٌ؟ كن من أنت حيث تكون واحمل عبء قلبك وحده؟ وكيف يحمل عبء قلبه وحده وهو المشهور بأنه صديق المعتقلين، يركض وراءهم في كل مكان؟
"أين نظارتك يا كريم؟" "مسكوها وكسروها بالعافية". "ليه؟" سؤال لا يُطرح. لاحظت سحابة بيضاء خفيفة على عينه اليسرى، أطلت التحديق، نظر إليّ وابتسم. زالت السحابة. وإنتي عاملة ايه؟ بمَ أرد؟ حرة في الحركة؟ سأغادر مصر ثانية ولا أعلم متى أعود؟ حزن خفيف. تمنيت خروجك يا كريم حتى نحتفل. لماذا لا يخرج كريم، الآن وحالاً؟
نخرج، صديقتنا الأكثر تماسكًا والأعلى صوتًا تنغمس في بكاء مكتوم يهزّها هزًا، وهي تنظر من الشباك الخلفي لسيارة الترحيلات. تشتم في سرّها، تجيبنا بلا صوت. لا تكترث لنا إطلاقا. تشعر بضياع تام، وأن كل شيء بلا معنى. نربتّ عليها. لا تصمت عن البكاء. إحدى فتاتين توأم، خرجتا من زيارة والدهما صاحب اللحية نصف الطويلة ومعهما والدتهما المنتقبة، تجهش ببكاء عنيف وتقول لأمها وسط نهنهاتها أنها تدعو الله يوميًا أن "ياخدني بقا ويريحني". يلاحظها أبوها، تجفف دموعها سريعًا وتعود إليه، تسلم عليه وتبتسم. تصعد للسيارة وتطرق صامتة تمامًا.
نلتصق بنافذة سيارة الترحيلات، يدور في ذهني "والمغربية جاية، تتخفى ورا، ضهر الشجر..".
"يا عزيز عيني وأنا بدّي أروّح بلدي
ليلة بتّ فيها وصحيت ملقيتش بلدي
عمّي ياللي ماشي
ظلم ما ترضاشي
سافر قلبي ولا جاشي
يدوّر على بلدي"
___________________
* تُنطق هكذا: "جاميكا"، تباسطًا.

23-2-2014
نُشرت على الفيس بوك

No comments: