فلنغلق العالم، نطفئه تماما ونخرس صوته. ستدخل إلى غرفتك طاردًا منها كل الغرباء والأصدقاء أيضًا، والإخوة لو لزم الأمر. أنت هنا محاط بموجوداتك الأليفة: هذا المكتب الذي شهد سنوات مذاكرتك عليه، منذ تخليت عن الاستذكار على السفرة مع أحد والديك، وأصبحت تركن عليه الآن أشياءك وملابسك عندما تأتي من الخارج وتلقيها على الكرسي. هذا سريرك، صحيح أنه مرتبط بالكوابيس وله روابط سيئة، إذ قضيت عليه أسوأ أيامك محدقا للسقف أو متقلبا عليه محاولا إيقاف عقلك وإسكات أصواتك الداخلية والنوم، ذلك النوم المريح الهادئ، الذي ربما لم تذقه منذ أيام.. صحيح أنه على صلة بالأحلام المزعجة التي تنهض من عليه وتتركها على الوسادة تمرح لحين عودتك ثم تسكن عقلك ثانية، لكنه أيضا تحمّلك كثيرا ولم يشتكِ، تحمل تقلبك الدائم عليه في محاولات نومك الفاشلة، وتحملت وسادتك رأسك المليء بالأفكار والخيالات المزعجة، المليئة أحيانا بقتلى وجرحى ومحاولات هروب وضرب، ضرب مبرّح.. استوعبك الفراش ضامّا جسدك في حدوده الأليفة.. هذا حائط، حائط صلب أيضًا لكنه حنون، احتمل ارتكانة رأسك عليه في لحظات ضعفك واستكانتك، وتساؤلك الضعيف عن كيف ولماذا وأين، وكان رفيقًا بك أيضًا عندما رطمتها به في تساؤلاتك الغاضبة وتصاعد نبرة احتجاجك الساخط وصراخك، عن لماذا يتركنا الله وحدنا في هذا العالم، ولماذا نعاني وحدنا أيضًا، نزولا لبحيرة اليأس تملأ أكوابك منها وتسكبها، وتتضرع إلى الله..
فلنتخيل معًا، واعذرني يا صديقي لو شطح مني الخيال فأنا لا أريد لك إلا كل خير، واتصور أن محاولاتي هذه ربما تؤتي ثمارها.. بعون الله تؤتي ثمارها.
نتخيل الآن أنك وحدك في غرفتك، ضوؤها غير ساطع، فأعصابك لا تتحمل ضوءًا يشبه النهار في وضوحه وقطعيته، ولا ظلمة ليل داجٍ تذكرك بظلام انغمست فيه وحدك فلم تعد تعرف يدك حين تمدها أمام عينيك، ولا تريد تذكيرك بعتمة سجن رموك فيه مرة وكرهته وكرهتهم وربما كرهت نفسك بعدها. كلا، هو ظلام دافئ يذكرك ربما برحم كنت فيه عزيزًا دافئًا آمنًا وادعًا مستكينًا.. ستحاط بشموع برائحة القرفة، وأخرى بالفراولة العذبة اللاذعة قليلًا، وثالثة ببذور الفانيليا المُرّة طيبة العطر، تذكرك ببسكويت العيد إذ تتفنن نساء الأسرة في إعداده وتسرق منه واحدة خرجت حالا من الفرن وركضت حاملاً غنيمتك فلسعت أصابعك ولسانك لكنك سامحتها لطعمها، مقرمشة من الخارج ما زالت طرية من الداخل.. شمعة رابعة بالرائحة النفاذة لصغار التفاح الأخضر، الصلب شيئًا على أسنانك لكن طعمه السكّري يغفر له خشونته تلك.. ستُحاط بكل تلك الروائح حتى تدوّخك، حتى تدخل في حالة من الرضا، حتى تبتسم رويدًا رويدًا، وتمتنّ للعالم..
الآن، وقد هدأت نفسك قليلاً، وغادرتك خيالاتك المحطِمة، التاركة وراءها نفسًا مشوهة ومليئة بالثقوب، فلنعدّ شيئًا دافئًا لنشربه سويًا. سنحضّر مشروبًا ممتزجًا، ولنطلق عليه بيننا وبين أنفسنا، بعيدًا عن أعين مصححنا اللغوي "الخلطبيطة". سنضع الكنكة / البكرج على النار، مملوءًا حتى ثلاثة أرباعه بالماء، ونمزج فيه اليانسون المهدّئ للأمعاء، والبابونج ذا الرائحة الملطّفة، المطيّبة للأعصاب، والنعناع الطيب رفيق عصرياتك مع الشاي، والتيليو ذا التأثير المسكّن للجهاز التنفسي، والبردقوش عظيم الفائدة مع ضغط الدم المرتفع. سنمزج كل هذا ونتركه يغلي، ثم نصفيّه ونحلّيه بالعسل. كلا أرجوك، لا تقذفني بما تبقى في الكوب، أعرف أن طعمه سيء، بل شنيع، لكن تأثيره على أعصابك ساحر، يشبه المنوّم الذي يدوّخك بعد فترة من شربه. احمله الآن للغرفة الدافئة عذبة الرائحة واحتسيه رويدًا رويدًا، وعلى مهل..
سيغدو العالم مكانًا أفضل لو استمعت للدخلة الموسيقية لـ"أغدًا ألقاك" للست أم كلثوم. ثق في كلامي.
والآن يا صديقي ستترك تساؤلاتك عن لماذا عشت أنت وحدك دونًا عن الباقين، الذين تؤمن أنهم سبقوك لمكان أفضل حتمًا، وأن ما عند الله باقٍ، ستطرح جانبًا تساؤلك عن صديقين لك لم تعرف أخبارهم منذ نزلوا ولم يعودوا حتى الآن، رغم مرور سنين على تلك الواقعة، ومع ذلك فالتساؤل يرهقك في كل مرة كأنها المرة الأولى التي تعرف فيها بالخبر. ستضع كل هذا جانبًا، وترتدي شيئًا مريحًا، وتتبع خطوات رحاب بسام في صنع أرز باللبن لشخصين: بيت خالٍ إلا منك، بخور برائحة القرفة، فيروز تغني، وأنت تقلّب الأرز باللبن ببطء واثق حنون، ثم ترش عليه رشة قرفة. يمكنك بنفس الخطوات صنع كيكة بالشيكولاتة، أو بالتفاح والقرفة، وتأكلها ساخنة بأصابعك. صدقني، ستشعر ولو لجزء من الثانية، بالرضا..
____________________________
نُشرت على الفيس بوك
نُشرت على الفيس بوك
13 January 2013
No comments:
Post a Comment