الإيمان بك صعب يا جورج. الإيمان، مثلاً، بالعدالة، بقضاء عادل، بأن أي شيء مبهج سيحدث في هذه الدنيا، بأن الدنيا ليست قذرة كما نظنها حتى الآن، وأننا غارقون في الوحل حتى أحشاء أعناقنا.. الإيمان بأنك ستخرج، سترى النور ثانية، أن ترفع عن كواهلنا ذلك العبء، ذلك الذنب، ذلك الإثم، أننا نعيش خارج أسوار: نعبر الشارع، نشعر بالهواء يتخلل ظهورنا في يوم شتوي طلعت شمسه، نضحك مع زملائنا، نبتسم للطفلات في السوبر ماركت، الذهاب للسوبر ماركت أساسًا، نكشّر في وجوه عساكر المرور، أن نرى الشمس، نختبئ في الظل، نضحك ثانية، ثم نهتم بأمورنا.. كل هذا ننعم به بينما أنت محبوس، في العتمة..
***
اليوم، كان لا بد أن أقاوم يأسي، وكآبتي.. أحارب نفسي واهتف. الإيمان بالهتافات صعب يا جورج. لا تستطيع الهتاف من وراء قلبك مثلاً، أو بلسانك فقط. لا بد أن تلوّح بيدك. كيف تلوّح وأنت لا تؤمن بما تقول؟ كيف ترفع اصبعي "في" أو علامة النصر، ويقينك الداخلي لم يصله الإيمان بالنصر، بعد؟ كيف تحارب انكسارك وترفع صوتك لتزعق بأن الحرية لا بد قادمة، ودولة العدل، لا بد، متحققة؟
***
حكيت حكايتك ثلاث مرات حتى حفظتها، ثم لخصتها في سطر واحد لأي من العابرين. نرفع اللوحة العملاقة، بيضاء الخلفية، صورتك مبتسمة فيها، وبيتا شعر مسطوران، محاولةً منا، من صانع اللوحة، من قائل الأبيات، من مغنّيها، أن نؤمن بأن هناك أشياء أخرى في الحياة غير السجن والحبس والصراخ واليأس. هل حقًا؟
أحد التعليقات جاء من الصغري. لا بد أني نسيت اسمه، كان شيئًا غريبًا مثل الصغري. نسيان الاسم خطيئة، كما تعلم يا جورج. يعني مثلاً لا استطيع الهتاف لك وأنا اسمّيك إحسان، أو النبوي. لم يفهم ما قلته، لم اتصوّر أنه بالفعل لم يفهم ما قلته، كررّت بعبارات أبسط: كانت الحكومة - وأي زي رسمي عنده وكثيرين مثله، حكومة - تضرب في الناس، عوّرتهم جامد، كان لازم يروحوا يتعالجوا، جورج شالهم، ودّاهم المستشفى، الحكومة مسكته.
يعني هو فين دلوأتي؟-
في السجن-
سجن ايه؟-
أميل على من يساندني في حمل البانر: أنهي سجن؟
طرة-
.طرة يا صغري-
آه.. يعني مش ح يطلع؟-
لأ ما إحنا عاملين الهوليلة دي كلها عشان يطلع-
طيب هو محبوس ليه؟-
:فاضطر للشرح للمرة الثالثة. هذه المرة يفهم ويقتنع. يعلّق
حكومة بنت وسخة-
:اؤمن على كلامه
حكومة بنت وسخة فعلاً-
الصغري لم يذهب لـ"المدلسة"، يبيع "أزكار" في الشارع، حلق شعره على الزيرو فجاء يباهي اصدقاءه، الذين وقفوا يتطلعون إلينا في دهشة ونحن نغني "شيد قصورك" أو "اتجمعوا العشاق".. يقفز فوق سور دار القضاء العالي - لماذا لم يكتب أحد من قبل عما في هذا الاسم من مفارقة؟ - يتقافز حولنا، يبتسم في وجوهنا جميعًا، ويدعو لجورج.
***
ألم أقل لك بعد؟ لم أرك، نعم، لم أرك من قبل.. لماذا أومن بك إلى هذا الحد، إذن؟
لم أقل لك أني، وأنا اطبخ، افكّر بك. لا، ليس للكليشيه الذي مات ابتذالاً "فكّر بغيرك" لمحمود درويش، بل أجسّدك أمامي. منى سيف قالت أن نحوّل "السجناء" لأشخاص حقيقيين. شخصنوا المسألة، هكذا صاحت. شخصنتك - بهذه الكلمة مفارقة مؤلمة أخرى - وأحضرتك أمامي، كنت اطبخ لك. في حقيقة الأمر أكره الطبخ يوميًا. ماما جعلتني اطبخ بشكل شبه يومي، لأنها تعبت. أجعل لما افعله هدفًا، فأقول عند خروجك بإذن الله لا بد وحتمًا أن نقيم لك حفلاً، وأنا سأطبخ فيه. اتخيل الحضور. اتخيل أهلك. اتخيل فرحتك وارتباكك لأن غريبة عنك مبتهجة جدًا بك، لدرجة أن تطبخ خصيصًا من أجلك. صنعت لك كفتة، ومسقّعة، ومكرونة.. هذه المكرونة تحديدًا كانت جميلة جدًا، لو أخذنا في اعتبارنا أني أحب المكرونة ولم اتقن يومًا صنعها.. صنعت لك كيك وفطائر، عصير، أكوابًا لا نهائية من القهوة، وابتسامات مضيئة وتربيتات على الكتف. أحتاج خروجك يا جورج كي استعيد تواؤمي مع نفسي، استعيد إيماني بالأشياء، يصبح للقهوة طعم، لقصائد درويش سحر، للوطن معنى، للصحاب ابتسامة أكثر اتزانًا، وأكثر قدرة على حمل ذواتهم دون التعكّز على آخرين..
_____________________________________
نُشر على الفيس بوك
8 March 2012
نُشر على الفيس بوك
8 March 2012
No comments:
Post a Comment